Documents pédagogiques

بســـــــم اللــــه الرحمـــن الرحيـــم

الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية

وزارة التعليم العالي والبحث العلمي

 

جامعة8  ماي 1945 قالمة

كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية

        قسم التاريخ

 

 

في تاريخ تونس المعاصر

سلسلة محاضرات مقررة على طلبة السنة الأولى ماستر

تخصص تاريخ المغرب العربي المعاصر

(السداسي الأول والثاني)

الأستاذ الدكتور/ شايب قدادرة

 

 

 

المحاضرة الأولى: الحالة العامة في أوربا الغربية قبل فرض الحماية الفرنسية على تونس.

اتسمت الحالة العامة في اوربا الغربية قبل فرض الحماية الفرنسية على تونس بالصراع الشديد والتناحر الاستعماري لأن تونس كانت محل أطماع الدول الأوروبية الكبرى مثل فرنسا وانجلترا بل وحتى إيطاليا حيث أبدت هذه الدول اهتماما مبكرا بهذا البلد الصغير وكانت اهتماماتها تخضع لعوامل إستراتيجية واقتصادية وسياسية واجتماعية.

   فالبلاد التونسية لا تبعد عن صقلية سوى بـ  140 كم حيث تكون معها المضيق الفاصل بين حوضي البحر المتوسط، وقد اكتسبت بفضل هذا الموقع مكانة إستراتيجية كبرى فصر احتلالها إذن يشكل أهمية بالغة إذ يسمح بمراقبة طريق العبور بين غربي هذا البحر وشرقه

مما يسهل حتما مراقبة التجارة المتوسطية ، بل يسمح أيضا بمراقبة تجارة الشرق الأقصى ، وهو ما أصبح ممكنا منذ فتح قناة السويس وانتقال طريق الهند.

  وكان لمرفإ بنزرت منزلة خاصة لدى القوى العظمى إذ يمثل قاعدة بحرية من ا لصنف الأول في البحر الأبيض المتوسط وهمزة وسط بين الشرق والغرب ويسمح تبعا لذلك بتمويل البواخر بالوقود لأن سفينة الحرب لا تستطيع أن تحمل من الفحم إلا ما يكفيها لمدة أربعة عشر يوما وباخرة بدون فحم هي بمثابة الحطام،مثلما يقول جول فيري.

   كما كان ميناء بنزرت يسمح لانجلترا بحماية طريق الهند الذي يمثل أحد أركان سياستها الكبرى  علما بأن هذا الطريق صار يمر بالبحر الأبيض المتوسط منذ فتح قناة السويس في سنة 1869 وهذا ما يجعلنا ندرك الأهمية التي تعلقها هذه القوى العظمى على هذا المرفأ منذ فتح قناة السويس. فقد صرح القنصل الإنجليزي بتونس لزميله الفرنسي قبيل الحماية بقوله:( لقد كتبت لحكومتي مجلّدات حول بنزرت) غير أن أهمية الإستراتيجية كانت تخفي في حقيقة الأمر جانبا آخر من اهتمامات القوى الأوربية العظمى وهو الجانب الاقتصادي ، لأن بلدانا مثل فرنسا وانجلترا كانتا إذاك في أمس الحاجة إلى أسواق ومجالات لاستثمار فائض رؤوس أموالها ومصنوعاتها التي تغمر أسواقها الداخلية.

   وهذه الظروف تجعل مراقبة الطرق التجارية غاية يتطلبها الوضع الاقتصادي لأن الاقتصاد

الرأسمالي قد ضاقت به حدود أوربا الغربية بعدما بلغ مستوى معينا من التطور، وقد عرفت هذه الوضعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مرحلتين اقتصاديتين:

مرحلة نمو امتدت من سنة 1851 إلى سنة 1873 وتميزت بارتفاع في مستوى الأسعار والعائدات        ( المكاسب والأجور) فهي إذن مرحلة ازدهار اقتصادي وسلم اجتماعي.

ـومرحلة ركود امتدت من سنة 1873 إلى سنة 1896  وتميزت بانخفاض في الأسعار والعائدات فهي إذن مرحلة كساد اقتصادي وبلبلة اجتماعية.وقد سجلت بلدان مثل فرنسا وانجلترا في هذه الحقبة بالذات فوائض في بضائعها المصنوعة وفي رؤوس أموالها.فلم تعد هاتان الدولتان منذ 1870 تقيمان الحضائر الصناعية الكبرى كما عرفت حركة مد السكك الحديدية و مكننة الفلاحة فتورا كبيرا . ففقدت الصناعة الميكانيكية أهم حرفائها وسجلت بذلك فائضا في مواد التجهيز مما اضطر أرباب هذه الصناعة إلى تقليص طلباتهم من الفولاذ .فسدت آفاق الترويج في صناعة الحديد والصلب التي اضطرت ـ هي بدورهاـ إلى التخفيض من طلباتها في مادتي الفحم الحجري والحديد الخام الشيء الذي كان له الأثر الكبير في الصناعات الإستراتيجية.

    أمام هذا الانكماش الذي أصاب السوق الداخلية توقفت عملية النمو في كل القطاعات الصناعية  وتقلصت أنشطتها ، ولم تعد قادرة على خلق مناصب شغل جديدة ، بل لجأت إلى طرد عدد كبير من عمالها ، وكان لانخفاض صناعات الحديد والصلب تأثير مباشر على صناعات مواد الاستهلاك التي أجبرت هي الأخرى على التخفيض من إنتاجها ، وطرد قسم كبير من عمالها مساهمة بذلك في تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية .

   وقد ازدادت هذه الوضعية تعفنا بتقلص الأسواق الخارجية إذ وضعت البلدان الأوربية الأخرى حواجز جمركية لحماية صناعاتها الفتية من مزاحمة الصناعات الفرنسية والإنجليزية ، وتولدت عن هذا الوضع الاقتصادي أزمة اجتماعية إذ صاحب انخفاض الأجور انتشار البطالة في صفوف العمال وتعذر على الشباب العثور على منصب شغل. فشكلت هذه البطالة عاملا من عوامل الاضطراب والفوضى سواء في فرنسا أو في انجلترا. 

   وأمام هذه الأوضاع كان من المناسب جدا بالنسبة للدول الأوربية  أن توسع نشاطها التجاري والمالي في تونس مستغلة تلك المعاهدات غير المتكافئة التي فرضتها سابقا مع الباي لأن هذه المعاهدات تعفي البضائع الأوربية من جل الرسوم الجمركية وكذلك من المكوس الداخلية إذ اجبر الباي بموجب الفصل السابع من المعاهدة التونسية الإنجليزية المؤرخة في 19 جويلية 1875 على عدم منع أية بضاعة  من انجلترا خاما كانت أم مصنوعة ( وهذه البضائع لا تدفع عند دخولها إلى تونس أكثر من 8% من قيمتها وذلك علاوة على إعفاء مستهلكيها من تونسيين و أوربيين من كل المكوس التي تفرض عادة على السلع المحلية) غير أن هذا المشكل من التوسع لا يمثل رهانا بالنسبة للدول الأوربية نظرا لضعف المقدرة الشرائية للسكان التونسيين ـ رغم أنه يغمر البلاد بالبضائع الأجنبية ويعمل  بالتالي على تقويض ركائز الصناعة المحلية ـ وهو في آخر الأمر لا يوفر لهذه الدول أرباحا ذات أهمية.

   ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن كل هذه الدول تتمتع في البلاد التونسية بحق الأمة الأكثر رعاية ، أي أن كل مكسب اقتصادي تحصل عليه دولة أوربية يعود بالفائدة على بقية الدول وبعبارة أوضح فإن معاهدة 1875 المبرمة بين انجلترا وتونس لا تنطبق على التجارة الإنجليزية فحسب بل كذلك على كل البضائع المستوردة من البلدان الأوربية دون تمييز. وكانت جميع القوى العظمى تحترم هذه القاعدة في أغلب الأحيان .

   أما التوسع المالي فقد تم في البداية عن طريق القروض التي كانت تقدم إلى الباي بنسب مرتفعة جدا وهذه الأموال كانت تأتي في واقع الأمر من فرنسا وإنجلترا وايطاليا إذ قبلت هذه البلدان في مرحلة أولى اقتسام السوق التونسية .ولم تلبث أن استغلت عجز حكومة الباي على تسديد تلك القروض فأدت ديونها إلى فرض الهيمنة علي  مالية الايالة خاصة عام 1870 . وهذا الوضع يتماشى دون شك والرخاء الاقتصادي الذي عرفته القوى الكبرى فيما بين 1851 و1873 أي في فترة  وجدت فيها رؤوس الأموال الأوربية مجالا واسعا للاستثمارات المربحة بأوربا نفسها .أما في مرحلة الركود الاقتصادي (1873-1896) فقد كان التنافس بين هذه الدول يحتد كلما ضاقت مجالات الاستثمار باوروبا وقلت مكاسبها وأصبحت كل دولة تعمل على ضمان الامتيازات في الايالة لرعاياها من أصحاب رؤوس الأموال وكذلك على استثمار أكثر ما يمكن من أموالها في هذه البلاد

   وهذا ما دفع بالقنصل الإنجليزي ريتشارد وود (Richard Wood  ) إلى التدخل لدى مصطفى خزندار قصد الحصول على عقود و امتيازات لصالح رجال الأعمال الإنجليز وتمكن في شهر أوت من سنة 1871 من إفتكاك امتياز يتمثل في مد خط حديدي بين مدينة تونس وحلق الوادي من جهة وبين مدينة تونس وحي باردو من جهة أخرى لحساب شركة إنجليزية ولمدة 99 سنة وكلفت هذه الشركة في نفس السنة بإتمام إنجاز خط تونس حلق الواد المرسى كما عهد إليها مد الخطوط الحديدية بين تونس العاصمة والمدن التالية : باجة، الكاف، بنزرت ، ماطر، سوسة والقيروان.

 وقد أثارت هذه الامتيازات التي منحتها حكومة الباي لانجلترا حفيظة كل من فرنسا وايطاليا ،

مما دفع بقنصليهما إلى بذل المزيد من الجهد للحصول على مثلها من الامتيازات لفائدة مواطنيهما .ويبدو ان ايطاليا كانت في السبعينات أكثر حماسا من فرنسا بخصوص الحصول على امتيازات خاصة في تونس وكانت مستعدة لدفع أي ثمن لذلك.وكان رجال الأعمال الإيطاليون يجدون كل دعم من(ليكرقو ماشيو Licurgo Maccio ) قنصلهم في تونس، ومن حكومة (روما ) التي تدعمهم ماديا كي تساعدهم على مزاحمة الشركات الفرنسية ذات الإمكانيات المتوفرة. وهذا ما مكن الإيطاليين من الحصول على الخط الحديدي تونس ـ حلق الواد ـ المرسى (T .G.M).

ثم بدأ اهتمام الإنجليز في تونس يضعف وهذا منذ حصول الإنجليز على جزيرة قبرص سنة 1878 حيث تخلوا على الخط الحديدي وبيعه بالمزاد العلني الذي تم في جويلية سنة 1880 فانتزعت شركة ملاحة جنوة خط تونس ـ حلق الواد ـ المرسى وهكذا تكون شركة( روبطينو) الإيطالية قد كسبت هذا المزاد على حساب شركة السكك الحديدية الفرنسية (بون قالمة) (Bone-Guelma) بفضل تدخل الحكومة الإيطالية التي قدمت للشركة ضمانا ماليا يصل إلى سبعة ملايين ليرة إيطالية وضمنت لها أيضا نسبة ربح سنوي على المقادير المدفوعة تقدر بـ 6%.

وقد دفعت هذه الجرأة ـ التي اتسمت بها السياسة الإيطالية بتونس والتي دعمت مركز ايطاليا ومصالحها بهذا البلد ـ بفرنسا إلى التدخل بصفة جدية في الايالة ، فأصبح قنصلها (تيودور روسطان) (Theodore Roustan ) يبذل قصارى جهده لضمان التفوق الفرنسي في البلاد التونسية. وكان هذا الأمر يستدعي الوصول على أكثر ما يمكن من الامتيازات لفائدة رجال الأعمال الفرنسيين.

  وقد تحصل روستان منذ1876 على امتياز مد خط مجردة لفائدة شركة (باتينيول) (Batignolles) التي عهدت بإنجازه ، فيما بعد إلى فرعها بالجزائر المعروف بشركة  (بون ـ قالمة) وقد دشنت هذه الأخيرة في شهر أفريل سنة 1879 الجزء الأول (100 كم) من هذا الخط الحديدي الذي يربط بعد إنجازه ، بين تونس والجزائر.كما حصلت نفس الشركة سنة1880على امتياز مد الخطوط الحديدية الرابطة بين تونس وسوسة من جهة وبين تونس وبنزرت من جهة أخرى بعد ان تخلت عن ذلك الشركة الإنجليزية (The Tunis Railways Company  ) ثم توصلت في نهاية الأمر إلى الحصول على امتياز مد كل السكك الحديدية بالبلاد التونسية.كما تحصلت في نفس السنة شركة (باتينيول) على امتياز حفر ميناء بتونس العاصمة. وقد اهتمت الشركات الرأسمالية الفرنسية بشراء الاراضي التونسية مثلما اهتمت بحفر الموانيء ومد الخطوط الحديدية ولهذا الغرض فتحت شركة (مرسيلسا للقرض) قي شهر مارس سنة 1879 فرعا لها في تونس عرف باسم (الشركة الفرنسية التونسية للقرض) وتمكن هذا الفرع في السنة الموالية من شراء هنشيرين هامين ،يقع احدهما في سيدي ثابت ويمسح 5000 هكتار ، بينما يوجد الثاني في النفيضة وهو عبارة عن مقاطعة تمتد على مساحة 100.000 هكتار بين تونس وسوسة كانت ملكا للوزير الأول السابق خير الدين باشا .أما شركة باتينيو لفقد اشترت بدورها هنشيرا بوادي الزرقة ـ بين مجاز الباب وباجة ـ تقدر مساحته بتسعة آلاف (9000) هكتار. والملاحظ أن هذه الشركات المذكورة كانت وثيقة الارتباط بتجمعات مالية فرنسية كبرى:

(فشركة مرسيليا للقرض) مرتبطة بـ (شركة القرض الصناعي والتجاري )ومجموعة باتينيول ـ

بون ـ قالمة لها علاقات وثيقة بمصرف الإسقاط المرتبط بدوره بـ  (بنك باريس وهولندا) (Banque de paris et des pays Bas) وكانت هذه التجمعات المالية تضغط من حين لآخر على الحكومة الفرنسية كي تتحصل على امتيازات في البلاد التونسية وهذا ما يفسر دعم الحكومة والقنصل لممثليها في الإيالة التونسية وهذا ما يؤكده السيد (راي Rey) رئيس شركة مرسيليا للقرض نفسه حيث يشير دائما بأنه يحظى بكل حفاوة عند استقباله في باريس من قبل اشهر رجال السياسة في فرنسا وكان كل من (بارثيليمي سان هيلار Barthelemy Saint-Hilaire)

و(وادنقتونWaddington ) و(جول فيري Jules Ferry) و(قمبطا Gambetta) يتابعون المسألة باهتمام ، وقد أشار (دي لا نوسون De Lanessan) إلى أن كل الشركات المالية الفرنسية المهتمة بما يجري في تونس كانت  تلقى كل التشجيع من القائم بالأعمل روسطان ومن حكومة الجمهورية التي يسيرها رجال مصرون على عدم التفريط لأية قوة أخرى في بلد غني كالإيالة التونسية ومرتبط بالجزائر إلى حد أن مستقبل هذه الأخيرة قد يصبح مهددا لو صارت تونس مستعمرة أجنبية.

ولم يتوان تيودور روسطان في استعمال شتى الوسائل التي تجبر الحكومة التونسية على منح امتيازات للمؤسسات الفرنسية ، وكان القنصل الفرنسي يعتقد في قرارة نفسه بأن كل الأساليب جائزة ما دامت تسهل عمل المؤسسات الفرنسية في تونس.وهو يرى أن الاستعمار الاقتصادي يكتسي أهمية بالغة إذ يعتبر مدخلا للتدخل السياسي بل والعسكري متى قررت الحكومة الفرنسية إحتلال تونس.

   وكان( روسطان) متحمسا لتطبيق هذا البرنامج خصوصا بعد التغير الذي طرأ على موقف الدول الأوربية. فإذا استثنينا ايطاليا فإن باقي الدول الأوربية أصبحت منذ سنة 1878 لا ترى مانعا من انتصاب الحماية الفرنسية على تونس وقد تبلورت هذه النظرة في كواليس مؤتمر برلين المنعقد

من 13 جوان إلى 13 جويلية 1878 لوضع حد لمسألة البلقان. حيث شجعت كل من انجلترا و ألمانيا فرنسا على بسط نفوذها على تونس.فإنجلترا مثلا تخلت عن تونس لفائدة فرنسا مقابل هيمنتها على قبرص وذلك بعد أن توصلت إلى إبرام اتفاقية سرية  مع الإمبراطورية العثمانية تخول لها السيطرة على هذه الجزيرة وقد صرح وزير خارجية انجلترا اللورد(سالسبوري Salisbury) لنظيره الفرنسي(وادنقتون Waddington) بقوله :( احتلوا تونس ان شيئتم فانجلترا لا تمانع في ذلك بل تحترم قراراتكم) وكان يرمي من وراء ذلك إلى صرف نظره عن مسألة قبرص .ثم أضاف سالسبوري في مقابلة أخرى مع زميله الفرنسي قائلا: (وفضلا عن جميع الاعتبارات الأخرى فإنه يتحتم عليكم ألا تتركوا قرطاج بين يدي شعب متخلف ).

وقد أكد الوزير الأول الإنجليزي (بن جمان دسرائيلي Benjamin Disraeli) على هذه التصريحات لوزير الخارجية الفرنسي، بل جددت انجلترا لفرنسا تأييدها لفرنسا بخصوص المسألة التونسية غداة مؤتمر برلين أي في 7 أوت 1878 ، ووجدت حكومة الجمهورية نفس الدعم من ألمانيا إذ أيد المستشار الألماني (بسمارك Bismarck) المقترح الإنجليزي المتعلق بتونس الذي يهدف إلى منح تعويضات لفرنسا لصرف نظرها عن مقاطعتي الالزاس واللورين اللتين ضمتهما ألمانيا منذ سنة 1870.وقد أكد بسمارك ذلك في 4 جانفي 1879 في حديث له مع سفير فرنسا ببرلين الكونت دي سانت فاليي De Saint-Vallier  قائلا: ( إني أعتقد بأن الإجاصة التونسية قد نضجت وآن لكم أن تقطفوها )

وهكذا يمكن القول بأن فرنسا صارت تتصرف بكل حرية في تونس منذ أن تخلت ألمانيا وانجلترا عن هذه المسألة غداة مؤتمر برلين.

   وما كانت ايطاليا لتتخلى بالطبع علن مطامعها في تونس إلا أنها لم تلق دعما فعيا يمكنها من تحقيق غاياتها، بل عارضت انجلترا على عكس ذلك لان هيمنة الإيطاليين على الايالة تخول لهم مراقبة حوضي مضيق صقلية وتمكنهم في نهاية الأمر من قطع طريق الهند الذي أصبح يمر بالبحر المتوسط منذ فتح قناة السويس سنة 1869.غير أن حكومة الجمهورية الفرنسية ظلت ، رغم كل هذه الظروف الملائمة ، مترددة قبل أن تثير المسألة التونسية .ولم تزل فرنسا تعيش في ذلك الوقت  تحت تأثير هزيمتها سنة 1870 ، كما كانت أنظار الرأي العام الفرنسي متجهة نحو الحدود الألمانية  بينما كان متطرفو اليسار واليمين يروجون لفكرة الأخذ بالثأر حتى احتمال شن حرب على ألمانيا لاسترجاع مقاطعتي الالزاس واللورين أمرا واردا ،وكان جل الفرنسيين يرون أن السياسة المطابقة للمصلحة القومية هي التي تأخذ بعين الاعتبار أمن البلاد وكذلك تحالفاتها الأوربية.والسياسة الاستعمارية تبدو بناء على ذلك متنافية وهذا الغرض الملح ، أما سياسة الانطواء التي سلكتها الحكومة الفرنسية منذ سنة 1870 هي الكفيلة وحدها لإعداد فرنسا لحرب لا مفر منها ضد ألمانيا وجعلها تحافظ على قوتها وعلى تحالفاتها.

   وعلاوة على كل ذلك فقد اعتبر الرأي العام الفرنسي وعدد كبير من رجال السياسة تأييد بسمارك للتدخل الفرنسي في تونس مناورة يقصد بها المستشار الألماني تعكير العلاقات الفرنسية الإيطالية وعزل فرنسا على الصعيد الأوربي.وبات من المؤكد ألا يؤيد الشعب في هذا الظرف كل سياسة تعرض أمن فرنسا للخطر.وكانت حكومة الجمهورية واعية بذلك تماما وهو مانلمسه في هذه العبارات التي أسر بها (جول فيري ) إن وزير الشؤون الخارجية عند خروجهه من اجتماع لمجلس الوزراء في 29 جانفي 1881: ( تريد أن نرسل قوة عسكرية لاحتلا ل تونس ونحن قادمون على انتخابات في هذه السنة؟ أنسيت ذلك يا عزيزي سان هيلار ) و من المعلوم ان وزير الشؤون الخارجية الفرنسي كان قد طلب من حكومته التدخل بكل حزم في تونس.

      وهذه الظروف ستؤثر كثيرا في السياسة الفرنسية وستشل كل تحرك فرنسي داخل الايالة لمدة ثلاث سنوات تقريبا.وإذا كان وزير الخارجية الفرنسي ( وادنقتون wadington ) قد أعد مشروعي حماية في سنتي  1878 و 1880 فإن المعاهدتين بقيتا حبرا على ورق بسبب العداء الإيطالي والمعارضة الشديدة التي أبداها (قمبطا Gambetta) وإصرار محمد الصادق باي على عدم قبولهما.

 هذه الأوضاع دفعت فرنسا للخروج عن صمتها لسلك سياسة استعمارية وتبسط حمايتها على البلاد التونسية لان رجال الأعمال الفرنسيين كانوا يرون بأن الاحتلال سيمكنهم على الامتيازات التي تحصلت عليها شركاتهم في الايالة ، وقد بينت صحيفة ( لي بيتي باريزيانLe petit parisien ) الصادرة يوم 29 سبتمبر 1881 في مقال بعنوان: ( حقيقة غزو البلاد التونسية ) ان مسؤولية التدخل الفرنسي في تونس تعود أساسا الى الى الشركات المالية الكبرى.والملاحظ أن اول ما قامت به الجيوش الفرنسية في تونس من الاعمال إثر إحتلال البلاد تمثل في السيطرة على منطقة النفيضة لدعم وجهة نظر ( شركة مرسيليا للقرض) حتى تتحصل بذك على حق ملكية الهنشير الذي اشترته سنة 1880 من الوزير السابق خير الدين. ولعلنا نستطيع أن نفسر التحول المفاجئ  الذي طرأ على موقف رئيس مجلس النواب قمبطا من إحتلال الايالة.فبعد أن عارض بشدة كل مشروع حماية على تونس تحسبا من إثارة الفتنة بين فرنسا و إيطاليا نرى الجل القوي في الجمهورية الثالثة يقبل في شهر مارس 1881 فكرة إرسال جيوش فرنسية لهذه البلاد ، ولو أن ذلك تم بإلحاح من البارون( دي كورسال Le Baron de Courcel ) مدير الشؤون السياسية في وزارة الخارجية.وهذا التغير المفاجئ في الموقف يدفعنا الى القول بأن قمبطا وأصحابه كانوا كانوا معنيين بالمسألة التونسية لأسباب مالية.وكانت هذه الفكرة راسخة في ذهن( اللورد باجي Lord Paget) سفير انجلترا بباريس الذي كتب في تقرير لوزارة الخارجية البريطانية في نهاية عام 1881 قائلا:( ان قمبطا هو الذي خطط للمسألة التونسية من أجل جمع الأموال للانتخابات الفرنسية وذلك عن طريق المضاربة في البورصة).

    ومهما يكن من أمر فإن التحول الذي طرأ على موقف رئيس مجلس النواب الفرنسي ، والجهود التي بذلها ( ماشيو Maccio) قنصل إيطاليا بتونس لتعزيز مصالح بلاده على حساب فرنسا، هي التي دفعت رئيس الحكومة الفرنسية جول فيري إلى التدخل مباشرة في شؤون الايالة وكن ذلك في شهر مارس من سنة 1881 .

 ونظرا لقتاعة جول فيري بأن مصالح فرنسا تتطابق ومصالح أبنائها من أصحاب رؤوس الأموال فقد شرع هذا الأخير في عملية احتلال الايالة التونسية خاصة بعد أن طمأنه قمبطا بأنه سيحظى بمساندة البرلمان خصوصا وأنه شديد الحرص على حماية مصالح الشركات المالية الفرنسية في تونس ودعمها وعلى ايجاد حل للصعوبات الاقتصدية والاجتماعية التي تتخبط فيها آنذاك الجمهورية الفرنسية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثانية: أوضاع تونس العامة قبل فرض الحماية الفرنسية  عليها.

   لقد تميزت أوضاع تونس قبل فرض الحماية الفرنسية بمايلي:   

نظـام الحكـم: كان يحكم تونس باي ينتمي إلى عائلة إغريقية الأصل تسلمت السلطة سنة 1705 وكان الحكم يتداول بين الذكور وبحسب كبر السن ضمن سلالة حسين بن على،مؤسس الدولة الحسينية. ورغم تبعيته للباب العالى فإن الباي كان في حقيقة الامر مستقلا، فهو يجمع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وبامكانه النظر في مختلف القضايا العدلية، وتعتبر كل القرارات والمراسيم التي تصدر عنه قانونا نافذ المفعول. ورغم مايتمتع به من نفوذ مطلق ،فإن السلطة الفعلية كانت قبيل الحماية بين يدي الوزير الاكبر الذي يباشر تسيير الشؤون المالية والخارجية للإيالة، ويساعده في الإدارة العامة للبلاد وزير للداخلية الذي يسمى وزير القلم ومستشارون يرأسون مختلف الاقسام ، إلى جانب وزير الحرب ووزير البحرية اللذان يرمزان  إلى التقاليد العسكرية للدولة الحسينية. حيث كان الوزير الأكبـر مكلفا بجراية الباي فقايـد للوطـن القبلي ثم وزيرا للداخليـة، وكــان عديم التكويــن مثل سيده محمـد الصادق وغير مؤهــل لتسييــر شؤون الدولــة وقـد استغل مركزه ليزداد ثراء ،دون أن يولي مصالح البلاد أي إهتمام.

     وإن لم يكن مصطفى بن إسماعيل مملوكا في الاصل، فهو ينتمي في الواقع إلى هذه الطائفة التي هو مدين لها بوضعيته هذه ؛ إذ تربى في كنفها وتأثربها ولم يعرف غير طرقها في الحكم .وقد كانت حكومة الباي تضم أيضا عام1881 العزيز بوعتور وزير القلم ،أحمد زروق وزير البحرية سي سليم وزير الحرب ، والجنرال حسين وزير المعارف والاشغال العمومية.

و كان الباي محمد الصادق عام 1881يظهرعليه نقصا في التكوين والضعف في الادارة ،الامر  الذي جعله قليل الاكتراث بالشؤون العامة للبلاد تاركا السلطة لحاشيته.وكان الوزير الاكبر مصطفى بن إسماعيل شديد التأثير على الباي فقد إستغل هذا الاخير ضعف الباي فأدار شؤون الإيالة حسب أهوائه وكان أمر هذا الشخص غريبا إذ استطاع الارتقاء بسرعة مذهلة في سلم الوظيفة العمومية ليصبح في أوت عام 1878 وزيرا أكبر وهو في سن الخامسة والعشرين بعد أن تقلد عدة مناصب.

الوضـع المالـي: كانت المالية في تونس عام 1881 تخضع لنظام رقابة أجنبية بعد أن هيمنت عليها منذ 1869 كل من فرنسا وأنجلترا وإيطاليا وأمام عجز الحكومة التونسية على تسديد ديونها إتفقت هذه القوى الاوروبية على جعل مالية الايالة التونسية تحت نفوذها حتى تحمي مصالح مواطنيها مقرضي الباي .وبتحريض منها أسس الباي محمد الصادق سنة1869 لجنة مالية دولية حددت صلا حياتها بمقتضى قانون صدر في مارس عام1870  فقدرت ديون  البلاد التونسية آنذاك بـ- 125000000 (مائة وخمسة وعشرون مليـون فرنك ) ووقع تقسيم مداخيل الايالة إلى قسميـن : خصص القسم الأول منها لنفقات الدولة والثـاني لتسديد الديون ، وكانت هذه اللجنة المتكونة من تونسيين وأجانب عبارة عن جهازين، اللجنة التنفيذية ولجنة  المراقبة.

اللجنة التنفيذية: تتألف من ثلاثة أعضاء،وكان يرأ سها الوزير الاكبر بمساعدة عضو تونسي ومتفقد مالية فرنسي  يعينه الباي وكانت هذه اللجنة تمثل الجهز المركزي لإدارة مكلفة بجباية الضرائب المخصصة لتسديد الديون التونسية كما تعتبر في الوقت ذاته وزارة مالية لحكومة الباي وهو ما يخول لها إعداد ميزانية البلاد.

لجنة المراقبة: وتتركب من ستة أعضاء منتخبين يمثلون مقرضي الحكومة التونسية ، إثنان من فرنسا وإثنان من انجلترا، واثنان من إيطاليا، ولهذه اللجنة الحق في مراقبة كل العمليات التي تقوم بها اللجنة التنفيذية ، والتثبت فيها ، والمصادقة عليها إن إقتضى الامر .

وتفوض اللجنة المالية الدولية مجلسا إداريا للتصرف في المداخيل الخاصة بتسديد الديون ، وكان هذا المجلس يتألف من خمسة أعضاء : عضو تونسي تعينه اللجنة التنفيذية ، وأربعة يمثلون المقرضين (فرنسي، وإنجليزي، وإيطالي، وأوروبي من أي جنسية كان) ويعمل المجلس الاداري تحت إشراف اللجنة التنفيذية ولجنة المراقبة التي ترفع تقريرا حول تصرفه إلى اللجنة المالية الدولية بصفة دورية أما مصلحة الجماركفلم تكن من مشمولات هذا المجلس لأن اللجنة المالية رأت أن تسند إدارتها إلى موظف خاص نظرا لأهميتها.

وكانت اللجنة المالية الدولية غير مكترثة بمصالح البلاد التونسية حيث كان دورها ينحصر في الدفاع عن مقرضي الباي وتأمين ديونهم فقط. وفي هذا المجال نجحت إلى حد كبير، ففي سنتي 1871 و1877 تحصل المقرضون على فائض سنوي 5%.           

   وفي حالة عجز في المداخيل المخصصة لتسديد الديون تجبر الحكومة التونسية على تغطيته بخصم جزء من إعتماداتها الخاصة ، إضافة إلى ذلك فإن اللجنة المالية لا تسمح بأي تغيير في نظام الضرائب ، تفاديا لكل ما ينجم عن ذلك من أخطار ، لأن كل تغييير سيؤدي في أمد قصير الى نقص في المداخيل. وفي مثل هذه الظروف كان من المفروض على حكومة الباي  الإبقاء على نظامها الجبائي التعسفي.

الضرائب التونسية: كانت الضرائب التونسية في سنة 1881 ثقيلة جدا ،حيث كانت تسلط على الاشخاص  وقد عرفت البلاد صنفين من الضرائب : ضرائب مباشرة ، و ضرائب غير مباشرة. مثل المجبي، العشر، القانون .

    وكانت الضرائب المباشرة تمثل وحدها حوالي نصف ميزانية الإيالة أي ما يساوي 5460000 فرنك من جملة 11265465فرنك وهو ما يمثل معدل المداخيل الحاصلة في الخمس سنوات السابقة للحماية.

    ولم تكن هذه الضرائب موزعة توزيعا عادلا بل كانت تسلط أساسا على الفئات الفقيرة والكادحة من السكان ، وبناء على هذا التمييز فقد أعفي الكثيرون من ضريبة المجبي

كما إستطاع الاثرياء التملص من أداء بقية الضرائب وذلك برشوة جباتها أو وجهاء القصر ، ويشمل الإعفاء بصفة عامة كبار الفلاحين والمقربين من الباي . وفي هذا السياق يقول جان قانياج في كتابه، أصول الحماية الفرنسية بتونس les Origines du protectorat francais en  Tunisie:

( إن الضرائب المباشرة تكشف بوضوح عن طبيعة النطام الإقطاعية ذلك أن هذه الضرائب لم تكن تسلط على الرعايا بناء على مواردهم المقد رة أو الحقيقية بل حسب نفوذهم أو قدرتهم على المواجهة ، فقد كانت القبائل المتمردة معفاة على حساب السكان المستقرين ، مثلما كان الضعفاء يدفعون ضريبة الاقوياء والفقراء يدفعون ضريبة الاغنياء )

    أما الضرائب غيرالمباشرة فكانت تفرض على التجارة.وقد إستغلت الحكومة سهولة جمعها لمضاعفة الأداءات ، وقد كانت المحصولات والرسوم الجمركية تمثل أهم هذه الضرائب .

الجانب الإقتصادي و الاجتماعي: لقد كانت البلاد التونسية قبيل الحماية تبدو مزدهرة من الناحية الاقتصادية وخاصة الجهة الشرقية منها وقد أكد هذا كل من دوفايري    Duveryrierوالوزير المقيم بول كامبون paul combon.

     من خلال كتابتهما عن هذا الجانب فيقول دوفايري مثلا سنة1881: ( إن منطق الشمال والشرق الخصبة والمعرضة للأمطار الشتوية تذكرنا بالمناطق الأكثر حظوة بجنوب أوروبا ) .

     أما كامبون فقد كتب سنة 1882 عن هذا الموضوع لكنه أخلط بين الواقع الإقتصادي للإ يالةوالذكريا ت التاريخية لا فريقيا الرومانية حيث : ( إن موارد الإيالة هامة وان خصوبة المناطق الساحلية والوطن القبلي والساحل وجزيرة جربة تفسر الشهرة التي تتمتع بها في هذا المجال ( أفريكا) و نوميديا عند الرومان. ولا يمكن أن تعتمد هذه الشهرة على خصوبة وادي مجردة فحسب ، فالساحل و جزيرة جربة يتمتعان بخصوبة لا وجود لنظيرها في أية مقاطعة فرنسية ). وقد إشتهر شمال الإيالة بزراعة الحبوب حيث أن القسط الاوفر من المنتوج مصدره هذه الجهة .وكان الإنتاج الإجمالي للبلاد قبيل الحماية يتراوح بين مليونين و ثلاثة ملايينقنطار وكانت الأراضي الأكثر خصوبة بين أيدي أقلية من مقربي الباي أغلبهم من المماليك .وهم ملاكون متغيبون يعيشون في الحاضرة ويؤجرون أراضيهم الشاسعة لمزارعين آخرين أصبحوا بهذه الطريقة أثرياء على حساب صغار الفلاحين

     ومنذ عام 1875 صدر قانون الخماسة الذي من خلاله يعتمد الإستغلال الفاحش للفئة الكادحة من السكان . حيث أصبح الخماس يعيش تحت رحمة الملاك  وحتى الوكيل البسيط ولكي لا يخرج من هذه الوضعية المزرية كان بإمكان هؤلاء إيداعه السجن ما دام لم يرد لهم الديون المتراكمة عليه،  وبهذه الطريقة يبقى الوكيل البسيط سجين حياة الؤس على الأرض التي أفنى عمره فيها.

    أما جهة الساحل فكانت الفلاحة فيها ترتكزأساسا على غرس أشجار الزيتون ،وقد بلغ إنتاج زيت الزيتون في كل من سوسة والمنستير سنة1880 ( 140000) هكتلتر، فيما قدر مجموع إنتاج البلادب 210000 هكتار.

    وكانت الملكية الصغيرة هي الشكل الاكثر إنتشارا في هذه الجهة ،ولذلك كانت الفوارق الإجتماعية أقل حدة منها في بقية الجهات .أما السكان الذين عرفوا بشدة حزمهم فقد كانوا هم أيضا ضحية نظام الجباية وآفة الربا ،وبحكم تورط هذه الجهة في ثورة 1864 فقد عرفت أبشع انواع القمع على يد الجنرال أحمد زروق الذي أجبر السكان على من اليهود بفوائد بلغت 40 %

لدفع غرامة الحرب  وقد كتب جون قانياج في ذلك ما يلي :( إن الربا اليهودي قد عمل على مواصلة تخريب جهة الساحل كما ساعد أيضا على انتقال ملكية الكثير من أشجار الزيتون إلى المرابين .

    وهكذا فإن ثروة الساحل لم تخدم مصلحة أبناء هذه الجهة بل كانت توجه في معظمها للمنتفعين بالضرائب وللمرابين . وكانت واحات الجنوب،وبالأخص واحات الجريد مكانا ممتازا لزراعة النخيل،حيث كانت التمور التي يتراوح إنتاجها السنوي بين 200 و300 ألف قنطار تمثل أهم مورد في الجهة  ورغم ذلك فإن أغلبية السكان كانت تعيش في فقر مدقع لأن ثروة المنطقة كانت تنتفع بها السلطة.

    وفي داخل الإيالة كانت القبائل المتنقلة وشبه المتنقلة تعيش على الرعي في أراضيها الجماعية وتتعاطى فضلا عن ذلك زراعة الحبوب وخاصة منها زراعة الشعير التي تعتبر رهانا حقيقيا بحكم تقلبات الطقس .وكانت هذه الموارد غير منتظمة وغير كافية لسد حاجيات السكان مما أضطر القبائل إلى نهب مناطق الحضر من حين لآخر والوقوف أمام تعسف النظام وحكمه المطلق وذلك بالانتفاضات المتكررة.

    وقد لبت القبائل دورا هاما في اقتصاد البلاد لاحترافها تربية الأغنام  فهي بذلك توفر الصوف والجلود التي تعتبر مواد أولية لصناعة عتيقة يعيش منها جزء لا يستهان به من السكان في مدن عديدة كتونس والقيروان وغيرها.

    أما الصناعات التونسية الأخرى مثل صناعة الأقمشة والمعادن والصياغة والمعطورات عرفت قبيل الحماية تدهورا تاما ،حيث أنها لم تقدر على منافسة المنتوجات الأوروبية المصنعة والتي لايوظف فيهاأكثر من 8% من قيمتها عند نزولها بتونس والمعفاة من الضرائب المحلية التي توظف على البضائع التونسية.ولم تستطع الحكومة التونسية منع أو تحديد دخول هذه البضائع الى البلاد وذلك بحكم نظام الإمتيازات الذي تتمتع به بعض الدول الأجنبية .فغمرت المنتوجات الاوروبية  مختلف أنحاء الايالة وقد أدى غزو اقمشة(ليون) الحريرية واقمشة (مانشيستر) القطنية للأسواق المحلية إلى إفلاس الحائكين التونسيين .وعلاوة على كل ذلك انخفضت صادرات الشاشية ابتداءمن سنة 1875 إلى أقل من 250000 فرنك بعدأنكانت تفوق ثلاثة ملايين فرنك فيما بين 1861 و1863 وذلك نتيجة المزاحمة التي كانت تلقاها هذه الصناعة في أسواقها التقليدية كتركيا وإفريقيا الشمالية ومصر حيث وجدت الطرابيش الفرنسية والمجرية النمساوية رواجا كبيرا .ومن الطبيعي أن يكون لهذا الوضع إنعكاسات وخيمة على الحرفيين التونسيين حيث تحول الكثير منهم الى بطالين.

   وقد مست هذه الوضعية البورجوازية الاسلامية حيث مسها الافلاس جراء المنافسة الاجنبية فهجرت تجارة تصدير المنتوجات الفلاحية وتوريد البضائع المصنعة ،وتركتها الى عدد قليل من التجار المرسليين والجنويين الذين انضمت اليهم حفنة من اليهود استغلت الأزمة المالية لتحقق الإثراء ، وكانت المبادلات التجارية تتم بالدرجة الاولى مع مرسيليا والموانيء الايطالية وإنجلترا.

    هذا الوضع جعل كل التجار الأوروبيين يتمتعون با لعديد من الامتيازات وكذلك التجار اليهود الذين كان معظمهم تحت حماية القوى الأوروبية . وكان لكل هؤلاء التجار وضع خاص شأنهم في ذلك شأن جميع الأوروبيين المقيمين بتونس إذ كانوا يخضعون للقوانين المعمول بها في بلدانهم ويدير شؤونهم قناصل مكلفون بحمايتهم لدى حكومة الباي ، وبالدفاع عن مصالحهم  ودعمها في الايالة .

وتستند القوى الأوروبية لهذا الغرض على المعاهدات التي ابرمتها تونس مع بلدان عديدة  والتي تمنح إمتيازات عديدة لهذه الجاليات  وخاصة على المستويين الاقتصادي والقضائي.

   كما أ ن المعاهدات التي فرضتها الدول الاجنبية على الايالة التونسية قد حدت من مهمة هذه الاخيرة خاصة وأن هذه المعاهدات المبرمة مع انجلترا سنة1863 وسنة1875 ومع إيطاليا سنة1868 قد جعلت من تونس مكانا مفضلا للتجارة الأوروبية وأن البضائع المستوردة كانت لا تخضع عند دخولها البلاد لإجراءات جمركية بسيطة زيادة على كونها معفاة من الضرائب المحلية.

وبالإضافة إلى  ذلك فقد دعمت هذه المعاهدات التدخل الاقتصادي لأوروبا في تونس بمنحها حق الملكية العقارية للأجانب الذي ورد قبل ذلك سنة 1857في وثيقة عهد الأمان .

    ويتضح من كل هذا أن البلاد التونسية كانت في مثل هذه الظروف قابلة للاستعمار ، فحكومة الباي كانت آنذاك معزولة عن الأغلبية الساحقة من السكان ، ذلك أن النظام السياسي هو عبارة عن مؤسسة تعمل على استغلال السكان استغلالا فاحشا عن طريق الضرائب دون أي اعتبار للمصلحة العامة ، وكانت حصيلة الضرائب تعود بالفائدة خصوصا على فئة أصحاب الملكية التي لم تتردد لتنمية مكاسبها عن طريق إقحام البلاد ــ بدعوى الإصلاح ــ في سياسة قروض زادت في تفاقم الجباية إنهاك السكان ، وبالتالي في تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي.

وقد أصبحت البلاد التونسية من أجل ذلك رهينة القوى الأوروبية التي كانت حينذاك تتخبط في مشاكل اقتصادية واجتماعية زادت في اهتمامها بهذه البلاد ، وأدت في نهاية الأمر إلى فرض الحماية الفرنسية عليها عام1881.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثالثة: فرض الحماية الفرنسية على تونس عام 1881 وردود الفعل الوطنية:

مدخل: تعتبر تونس أول بلد خضع لتجربة نظام الحماية في تاريخ الاستعمار الفرنسي ، وقد استهدف مبتكر هذا النظام (جول فيري) أمرين: الأول: وهو إسكات المعارضة الدولية بحجة أن فرنسا لم تقض على كيان الدولة المحمية بالضم. والثاني: وهو إقناع المعارضة الداخلية بأن الحكومة لن تتورط في أعباء مالية جديدة ، لأن من مميزات الحماية أنها تحمل الدولة المحمية نفقات الاحتلال وجميع ما يترتب على الإصلاحات الإدارية والاقتصادية المفروض إدخالها بواسطة الدولة الحامية.ومن الواضح ان هذا النظام يتماشى مع أهداف جول فيري العامة من الاستعمار، إذ يقدم الاستغلال الاقتصادي على مسألة المجد القومي ويبدو أن فرنسا ارتاحت إلى هذا النظام فاتبعته بعد ذلك في عدة مستعمرات مثل الهند الصينية ، مدغشقر لمدة ما،وكذلك في مراكش. وتدل معاهدة الحماية على أن فكرة الحماية عند نشأتها كانت تقوم فعلا على مبدأ أن الدولة الحامية تشرف فقط إشرافا فنيا على الإدارة الوطنية وتوجهها دون أن تحل محلها بل أن تلك المعاهدة نصت على أن الاحتلال العسكري يكون مؤقتا.

   لقد تذرعت الحكومة الفرنسية بضرورة حماية الحدود الجزائرية لتبرير تدخلها في تونس مدعية أن هذه الحدود تتعرض باستمرار لهجومات القبائل التونسية وبالخصوص قبائل بني خمير.وآخر حدث سجل في هذا المجال تمثل في اغتيال مواطن من أولاد سدرة من قبيلة خمير في شهر فيفري 1881 حيث عثر عليه رفقة فتاة من قبيلة ناهد الجزائرية كانت على موعد معه في مقاطعة قسنطينة. فكان هذا الحادث كافيا لتدخل القوات الفرنسية في الايالة حيث انجر عن هذا الحادث عدة مناوشات بين قبيلتي ناهد وخمير أدت الى تدخل السلطة الفرنسية في الجزائر بدعوى فرض الأمن على الحدود ثم تحول الأمر إلى مواجهة بين الجيوش الفرنسية والقبائل التونسية يومي 30 و31 مارس 1881.وقد أستغل ( جول فيري ) هذا الوضع فطرح المسألة أمام البرلمان الفرنسي وطلب منه اعتمادات مالية قيمتها خمسة ملايين فرنك فرنسي لتنظيم حملة عسكرية لمعاقبة القبائل التونسية القاطنة على الحدود وردعها فصادق أعضاء البرلمان على ذلك في 7 افريل 1881 دون  اعتراض.

      والملاحظ أن المناوشات على الحدود بين القبائل التونسية والقبائل الجزائرية لم تكن وليدة شهر مارس 1881 بل تعود إلى زمن بعيد حيث تشير الإحصائيات إلى ما لايقل عن 2380 حادثة خلال فترة ليست بالطويلة. وهكذا يتبين أن الحكومة الفرنسية لم تعر أي اهتمام لهذه المسألة إلا عندما عزمت على بسط حمايتها على البلاد التونسية.

     وهذا ما أكدته السلطات العسكرية الفرنسية نفسها عندما ذكرت بأن أحداث شهري فيفري ومارس 1881 كانت تشكل فعلا بعض الخطورة ولكنها لم تكن كافية لتبرير الموقف الذي اتخذته الحكومة الفرنسية في تلك الفترة قائلة:(لا تمثل هذه الأحداث في نهاية الأمر سوى فرصة انتهزناها بسرعة للخروج من وضعية متردية ولتحقيق أهداف سياسية أسمى وأكثر أهمية) انطلاقا من هذا التصريح يتبين بان قضية قبائل خمير ماهي إلا حجة واهية اتخذتها الحكومة الفرنسية لتبرير تدخلها في تونس حيث مباشرة في عملية الاحتلال منذ شهر افريل 1881.

   وفي 24 افريل عام 1881 تسربت كتيبة فرنسية تظم 35000 رجل من الجزائر إلى البلاد التونسية بقيادة الجنرال ( لوجيرو Logerot) واحتلت مدينة الكاف في 26 افريل وسوق الأربعاء في التاسع والعشرين افريل وعين دراهم يوم 11 ماي وفي نفس الوقت قامت وحدة المشرق البحرية باحتلال طبرقة يوم 26 افريل بعد أن قصفتهـا بالقنابل ،وفي 1 ماي من نفس السنة استسلمت مدينـة بنزرت دون مقـاومة حيث كانت بهـا فرقتـان ( مـوران Mourand ، وبرييـار Breart) اللتـان كانتـا متمركزتيـن قبـل ذلـك في مدينـة ( طـولـون  Toulon) الفرنسيـة الساحليـة و فـي يـوم 8 ماي زحـف الجنرال ( برييار Breart) على مدينة تونس.

   وفي الثاني عشر من نفس الشهر دخل في حامية إلى قصر باردو بمعية القنصل الفرنسي (روسطان ) بعد أن أعلم الباي رسميا بهذه المقابلة وما كان من الباي إلا أن خضع ووقع على معاهدة باردو التي تكرس الهيمنة الفرنسية على البلاد التونسية.ورغم ذلك فقد تابع جيش الاحتلال عملياته العسكرية بعد إبرام معاهدة 12 ماي فاحتل مدينة ماطر يوم 18 ماي ودخل الجنرال ( لوجيرو) مدينة باجة يوم 20 ماي من نفس الشهر.إلا أن حملة الربيع التي اقتصرت على احتلال شمال الايالة قد توقفت في بداية شهر جوان.

   واعتقدت حينئذ السلطات الفرنسية بأن ملف القضية التونسية قد طوي ، الأمر الذي جعلها تشرع منذ 10 جوان 1881 في التخفيض من قواتها العسكرية وهو ما ساعد على تنامي حركة المقاومة التونسية التي امتدت السنة لهيبها بكامل أرجاء البلاد في صائفة 1881 وهذا ما دفع بالحكومة الفرنسية إلى تعزيز جيوشها من جديد لمواجهة الموقف فأرسلت إلى البلاد التونسية بـ 84 كتيبة برية بالإضافة الى القوات البحرية، وتمكنت  هذه القوات من احتلال مدينة صفاقس يوم 16 جويلية 1881 بعد معارك عنيفة ، ومدينة قابس في يوم 24 من نفس الشهر فاستسلم حي ( جارة ) للأعداء دون مقاومة ، أما الحي الآخر للمدينة ( المنزل ) فقد صمد لأكثر من أربعة اشهر بفضل دعم قبائل نفات وبني زيد ، ولم تتمكن القوات الفرنسية من فرض رقابة فعلية على واحة قابس إلا في نهاية شهر نوفمبر 1881.

    أما جهة الساحل والوسط فلم تستسلم للأعداء إلا في شهر سبتمبر و أكتوبر ، بعد أن واجهت ببسالة القوات الغازية التي تم لها احتلال القيروان في 26 أكتوبر بعد أن فتحت كل الطرق المؤدية إلى هذه المدينة .وهكذا صار جيش الاحتلال يهيمن على أهم مناطق الايالة في نهاية سنة 1881 . غير أنه إذا كان سكان المدن والقرى قد خضعوا للسلط الجديدة فإن أغلب البدو الذين يعتبرون العمود الفقري للمقاومة قد تمركزوا بجنوب الايالة وفي طرابلس ليواصلوا طيلة ثلاث سنوات مناوشة الأعداء ونهب السكان الخاضعين لهم . وهكذا فان لم تلق قوات الاحتلال مقاومة من قبل جيش الباي فقد واجهت مقاومة عنيفة من قبل سكان الايالة^.

 المقاومة الوطنية التونسية المسلحة وأشكالها:

الظاهر أن احتلال تونس دون مقاومة قوية قد جعل الفرنسيين يعتقدون بأن أمرهم قد استقر ولذلك قبل قائد الحملة بريار بطلب الباي بعدم دخول القوات الفرنسية إلى العاصمة .ومن جهة أخرى أسرع جول فيري بسحب جزء كبير من قوات الحملة لكي يظهر للمعارضة براعته في تنفيذ خطة الاحتلال بأقل عدد من الجنود والنفقات ، سيما وأن البلاد كانت مقبلة على انتخابات نيابية. وكان جول فيري بحاجة إلى استرضاء أسر الجند، ولكن سرعان ما خاب تقديره حين اندلعت في البلاد ثورة عارمة.

ولقد شجع التونسيين على القيام بهذه الثورة عاملان : الأول قيام ثورة في الجزائر ، هي ثورة الشيخ بوعمامة في جنوب وهران في صيف 1881 . وثانيا إحساس التونسيين بأن القوات العثمانية المرابطة في طرابلس الغرب ستؤيدهم أو على الأقل ستأويهم إذا فشلوا في حركتهم .

ولذلك كان القسم الجنوبي من تونس هو المسرح الرئيسي للثورة ، خاصة في مدينة القيروان المشهورة في شمال إفريقيا كله بمكانتها الدينية والتاريخية العظيمة. فهي أول مدينة إسلامية بناها عقبة بن نافع عندما فتح المسلمون هذه البلاد ، وهذا يدل على أهمية الباعث الديني في حركة المقاومة. ومن القيروان امتدت الثورة إلى الساحل الجنوبي ومن ثم إلى باقي القطر التونسي كما سنرى فيما بعد.

   لقد أحرجت هذه الحركة الثورية موقف جيل فيري ، فهو الذي أراد أن يتم عملية الاحتلال بأقل عدد ممكن من الجنود. وقد أصبح الآن بين أمرين : إما أن يترك الثورة وشأنها مخاطرا بالمكاسب السهلة التي أحرزها منذ قليل، وإما أن يعزز الحملة بقوات كبيرة، وهذا لا يتأتى إلا بإعلان التعبئة وباعتماد نفقات كبيرة قد لا يوافق عليها مجلس النواب.

  وقد تغلب هذا السياسي الاستعماري البارع على هذه المشكلة، إذ قرر الثورة على تونس على مرحلتين: مرحلة أولية عاجلة وتهدف إلى إبعاد الثوار عن المنطقة الساحلية حتى تقطع عليهم سبل الاتصال بالخارج، ويمكن الاكتفاء بالأسطول الفرنسي لإتمام هذه العملية. والمرحلة الثانية وتهدف الى الزحف على الثوار في الداخل، وقد أجل تنفيذها إلى ما بعد الانتخابات العامة في اوت1881.  

وكانت المقاومة المسلحة التونسية على النحو التالي :

أولا: في الشمال.

لقد كانت قبائل خمير  وسكان الجبال عموما في طليعة حركة المقاومة في شمال البلاد.

حيث أنه لمجرد سماع نبأ وصول السفن البحرية الفرنسية  إلى ميناء طبرقة حتى هب متطوعون من أولاد بوسعيد والحوامدة وأولاد عمر بقيادة شيوخهما لمقاومة ولمواجهة الأعداء .ولم تتمكن قوات الاحتلال من الاستيلاء على المدينة في 26 أفريل 1881 إلا بعد قصفها . أما الفروع الأخرى من خمير فلم تغادر مواقعها بل بقيت لقطع السبيل على القوات الفرنسية القادمة من الجزائر حيث تصدت لكتيبة الجنرال      ( فانسندون Vincendon) في26 أفريل 1881 .

واعترفت السلطات الفرنسية بأن أفراد هذه القبائل قد استماتوا في الدفاع طوال ساعات عديدة ولم يوقفوا القتال إلا بعد أن تكبدوا خسائر فادحة.ثم تواصلت المقاومة في جهة جندوبة بمشاركة قبائل أولاد بوسالم والشياحية وعمدون.وكنت هذه القبائل مدعمة بأبنائها من الجنود الذين فروا بأسلحتهم من معسكر على باي في 29 أفريل 1881 للدفاع عن مواطنهم إثراحتلال سوق الأربعاء .وشهد سهل بوسالم في 30 أفريل معركة عنيفة دارت رحاها في موضع يعرف بـ (بن بشير ) حيث تواصل القتال من الساعة الثامنة صباحا إلى السادسة مساء.واضطر المقاومون إلى التقهقر والفرار من ساحة المعركة نظرا للتفوق التقني الذي أظهره العدو وخاصة بعد وصول تعزيزات هامة لقواته.

   وتميزت قبائل مقعد وهذيل في الشمال أيضا بمقاومتها الشديدة للغزاة حيث واجهت قوات الاحتلال بكل شجاعة في جهتي ماطر وبنزرت. ففي 28 أفريل 1881 استولى أبناء مقعد على سفينة حربية فرنسية غرقت في عرض الساحل التونسي بين رأس سرات وميناء بنزرت فنهبوها وأسروا من فيها.واثر ذلك طاف الشيخان داود بن سعد من المشارقة ، والحاج محمد بن أحمد من مشيخة العرب بالمنطقة لاستنفار السكان وحثهم على حمل السلاح.فاستجاب كل افراد مقعد وهذيل لنداء المقاومة وأصبحوا على أتم الاستعداد لمواجهة الاعداء.وهذا ما أكدته السلطات العسكرية الفرنسية نفسها عندما أشارت إلى أن( قبيلة مقعد كانت برمتها في حالة عصيان في 12 ماي وانتشر أفرادها في سهل ماطر حيث التحق بهم متطوعون من هذيل وبجاوة وشيخة العرب وجزء من سكان المدينة)  ولم تتمكن قوات الاحتلال من القضاء نهائيا على مقاومة هذه القبائل إلا في بداية شهر جوان ، إذ استسلم أبناء مقعد وأجبروا على تسليم أسلحتهم للعدو كما قدموا حوالي عشرين رهينة تم سجنهم فيس في مدينتي عنابة وتونس.كما التزموا أيضا بدفع غرامة حبية قدرها 12000 فرنك.وعمدت سلطات الاحتلال في نفس الوقت إلى نزع السلاح من أفراد هذيل و بجاوة وسكان ماطر.

   وبعد أن خضع سكان المناطق الجبلية ظنت حكومة الجمهورية أن ملف القضية التونسية قد طوي وهذا ما حملها على التخفيض من قواتها العسكرية منذ 10 جوان بل ذهبت إلى ابعد من ذلك عندما قررت حل جيش الاحتلال في السادس والعشرين من نفس الشهر.لكنها سرعان ما أجبرت على تعزيز جيشها بالبلاد التونسية حتى تتمكن من التصدي للمقاومة التي انتشرت في الوسط والجنوب والساحل.وكانت القبائل في هذه المناطق كذلك في طليعة المقاومة إذ لبت قبائل ( نفات)،(جلاص )، ( الفراشيش )،( الهمامة )     ( أولاد عيار ) دورا حاسما في هذه الحركة.

  وكانت الاتصالات مستمرة ومنتظمة بين شيوخ هذه القبائل اذ حاول كل من علي بن خليفة قايد نفات والحاج علي بن مسعي قايد أولاد يدير ( جلاص ) والحاج علي الحرّاث شيخ أولاد وزّاز (فراشيش ) وأحمد بن يوسف قايد أولاد رضوان ( همامة ) وعلي بن عمار القايد السابق لأولاد عيّار تنسيق جهودهم وتوحيد أعمالهم مكونين بذلك شبه مجلس قيادي لتسيير المقاومة.فاتسعت رقعتها بسرعة مذهلة .

    وامتدت إلى قبائل أخرى كالمثاليث وأولاد سعيد والسواسي وأولاد عون وغيرها.وفي هذا الظرف تجاوزت كل القبائل خلافاتها المزمنة وانقسامها المعروف إلى صفّين متعاديين ( أي الصف الحسيني ـ والباشي ، وشداد) بهدف الوقوف صفا واحدا في وجه الأعداء ومواجهة الخطر الذي يهدد البلاد    

بل ذهبت هذه القبائل الى ابعد من ذلك اذ قبلت بأن يكون علي بن خليفة على رأس المقاومة لما عرف به هذا الرجل من حركية ونشاط دائب.وقد عرفت هذه الحركة انتشارا واسعا منذ شهر جوان 1881 وأصبح السكان يعيشون في حالة هيجان قصوى فاضطر كثير من القياد إلى الفرار نحو مدينة تونس هروبا من التهديدات التي كانت تستهدفهم .

كما شددت الرقابة على البعض الآخر حتى أصبحوا لا يقدرون على وضع حد لحالة الاضطراب التي تعيشها القبائل، وكل ذلك خوفا من أن تؤول مواقفهم وينعتون بالخيانة وقد تخلى الكثير منهم عن مناصبهم والتحقوا بالعاصمة تونس لينظموا إلى جملة المسؤولين المحليين الذين تركوا مراكزهم عندما أحسوا بالخطر ،وأمسك عندئذ قواد المقاومة بزمام الأمور وتصرفوا كسادة حقيقيين في مناطقهم، وصاروا يهيئون السكان للدفاع عن البلاد ويحثونهم على المقاومة قبل أن تصل القوات الفرنسية إلى المناطق التي يراقبونها.وهكذا فإن جل قبائل البلاد التونسية كانت في شهر جوان 1881 في حالة انتفاضة عارمة. وقد اعترفت السلطات العسكرية  الفرنسية نفسها بذلك مصرحة بأن (روح المقاومة كانت تختلج آنذاك -أي في 20 جوان - في صدور جل سكان الايالة الرحل وذلك خارج المناطق التي تراقبها قواتنا) ولعل ما قام به أولاد سعيد ورياح خير دليل على ذلك ، اذ حاولوا قتل الموظفين الأوربيين التابعين لشركة استغلال ضيعة النفبضة رمز الاحتلال الفرنسي.حيث نفذت هذه المحاولة بعد فترة وجيزة من إبرام معاهدة باردو.

   وكانت (استراتيجية ) المقاومة ترمي إلى منع جيش الاحتلال من محاصرة صفاقس من جهة البحر والوقوف في وجهه حتى لا يتوغل داخل البلاد ،وقطع السبل المؤدية إلى مدينة القيروان .

و لهذا الغرض توجه علي بن خليفة النفاتي إلى صفاقس لتنظيم صفوف المقاومة.

ثانيا: في الجنوب.

لقد تميزت المقاومة المسلحة التونسية بالجنوب بالاضطرابات بصفاقس خلال شهر جوان 1881 قام بها عامة السكان بالاشتراك مع جمع من قبيلة المثاليث.وكانت الشائعات الرائجة آنذاك حول تدخل الدولة العثمانية لطرد فرنسا من البلاد التونسية قد زادت في توتر الوضع في هذه المدينة .

مما بعث الفزع في الجاليات الأوربية وكذلك في أعيان المدينة الذين يخشون عمليات النهب التي قد يقوم بها الأعراب في وضع يتسم بعدم الاستقرار.ولم يكن لجوء عائلة نائب القنصل الفرنسي بصفاقس في الخامس والعشرين من شهر جوان الى باخرة ( البشير) التونسية ليطمئن الجاليات الأوربية.فأسس القائد حسونة الجلولي بمعية الأعيان حراسا مدنيين لحماية الأوربيين من غضب السكان وصيانة المدينة من الأعراب.كما بعثت لنفس الغرض ، السلطات الفرنسية بتونس بباخرة (الذئب Le chacal ) التي أرست بصفاقس في 27 جوان1881 ،مما زاد في هيجان عامة السكان الذين هجاموا في الثامن والعشرين من نفس الشهر بمعية جمع من المثاليث قنصلية فرنسا ونزعوا من فوقها العلم الفرنسي كما ضربوا نائب القنصل الفرنسي ( ماتيي Matteϊ) وهم يصيحون ( الموت للفرنسيين) دون أن يمسوا بسوء بقية الأوربيين الذين لجأوا رغم ذلك إلى باخرة ( الذئب)  وفي 29 جوان 1881 هاجم الثوار القايد حسونة الجلولي لتواطئه مع الفرنسيين.

    ولم ينج هذا الأخير من غضب السكان إلا عندما احتمى بزاوية سيدي علي الكراي قبل أن يلتحق  سرا في الفاتح من جويلية بمعونة أعيان المدينة بإحدى سفن الأسطول الفرنسي التي أرست في نفس اليوم بصفاقس ضمن المدد الذي بعث به ( روسطان ) بالاتفاق مع الوزير الأول مصطفى بن إسماعيل اثر اضطرا بات 28 جوان 1881 لقمع المقاومة التي كانت تتأهب لحماية المدينة من الغزو الفرنسي، فتأسست لجنة للدفاع عن المدينة تضم 40 عضوا من سكان صفاقس الأصليين و10 من المثاليث تحت رئاسة محمد الشريف ضابط الدفعية بحامية صفاقس ـ التي إنضمت إلى المقاومة  مع قائدها محمد معتوق ـ وبمساندة الشيخ محمد كمّون بينما أقبل إلى صفاقس عدد كبير من الإعراب لتعزيز المقاومة. ووصل علي بن خليفة النفاتي إلى ضواحي هذه المدينة في بداية شهر جويلية في عدد كبير من أبناء قبيلته، ومنها صار على اتصال دائم مع قبائل المثاليث والسواسي وجلاص.كما بعث برسل لساحل سوسة وقبائل أولاد سعيد ورياح و طرابلسية زغوان.

   وبفضل الدعم الذي لقيه من نفات وبني زيد والمثاليث صار علي بن خليفة القائد الفعلى لصفاقس واعترف سكان المدينة بنفوذه وسلطته، وطرحت عليه لجنة الدفاع عن المدينة كل المسائل الدقيقة والعويصة التي يمليها الموقف.كما اعترف أعيان المدينة بعد فترة طويلة من التردد والمراوغة بسلطته إذ رأوا فيه الرجل الوحيد القادر على حماية أملا كهم من عمليات السطو والنهب التي يمكن أن يقوم بها البدو المرابطون بصفاقس وضواحيها.

غير أن المقاومة لم تستطع الصمود طويلا أمام الأسطول الفرنسي ـ الذي بلغ أوجه في 14 جويلية حيث ضم 17 سفينة حربية و6000 جندي ـ وذلك نظرا للتفاوت التقني بين أسلحة الثوار التونسيين وسلاح قوات الاحتلال. فسقطت مدينة صفاقس في السادس عشر من شهر جويلية 1881 بعد قصف دام عدة أيام وتواصل طوال 15 جويلية وذلك رغم ما أبداه رجال المقاومة من بسالة وشجاعة أدت إلى هلاك عدد كبير منهم. واثر احتلال صفاقس اتجه بعض الأعيان من البدو يتقدمهم الحاج صالح بن خليفة شقيق قايد نفات  نحو قابس لتنظيم المقاومة بهذه المدينة التي تتركب آنذاك من قريتين: المنزل وجارة. وكان سكان قابس يتوقعون قدوم الأسطول الفرنسي إلى بلدتهم.وفعلا فقد أرست في الواحد والعشرين من شهر جويلية 1881 باخرة حربية فرنسية بهذه المدينة وبعث قائد السفينة برسالة يطلب فيها من الأهالي توضيح موقفهم تجاه القوات الفرنسية فوقع اجتماع حضره قاضي ومفتي هذه المدينة وكذلك جمع من أعيان (جارة) يتقدمهم وكيل جمعية الأحباس الحاج احمد بن جراد الذي دعا الجماعة إلى الخضوع لقوات الاحتلال.غير أن هذا الاقتراح قد قوبل بالسب والشتم والرفض من طرف جل الحاضرين، وأثناء الاجتماع نزل خبر مفاده أن الجيش العثماني قد نزل بطرابلس وأنه سيحل عن قريب بقابس. فزاد ذلك في عزم الجماعة على مقاومة الاحتلال.وأصبحت (المنزل) مركزا للمقاومة يقبل اليها المقاومون من جميع قرى واحة قابس مثل شنيني وغنوش وبوشمة ووذرف والمطوية والحامة وكذلك من قبائل نفات وبني زيد وحازم ورغمة.

    كما التحق بصفوف المقاومة جمع من فقراء جارة. ووصل الأسطول الفرنسي إلى قابس في 24 جويلية 1881 وبدأ في قصف (المنزل) واستقبل أعيان (جارة) في مدخل القرية جنود العدو الذين انتصبوا ببرج هذه البلدة ليطلقوا النار على الثوار المتجمعين بالمنزل ، ورغم ذلك تمكن رجال المقاومة من اكتساح ساحة السوق بجارة حيث دارت معركة بينهم وبين الجنود الفرنسيين انتهت بعودة هؤلاء الى معسكرهم الكائن على الشاطئ.إلا أن قوات الاحتلال أعادت الكرة في السادس والعشرين من شهر جويلية بقيادة الكولونيل ( جامي Jamais ) وتمكنت من احتلال جارة.ولم يحد ذلك من عزيمة المقاومة التي تواصلت في بقية قرى الواحة مكبدة العدو خسائر في العتاد والأرواح وصمد الثوار لمدة تزيد عن الأربعة اشهر واصلوا فيها مناوشة سكان جارة الخاضعين للعدو وكذلك القوات الفرنسية التي لم تتمكن من السيطرة الفعلية والتامة على هذه المنطقة إلا في نهاية شهر نوفمبر1881.

ثالثا: في الوسط  والساحل.

لقد شملت المقاومة أيضا قبائل جلاص والهمامة وسكان قرى الساحل الذين هبوا في غمرة الحماس لمقاومة قوات الاحتلال ، بعد أن انضم اليهم عدد كبير من الجنود النظاميين الذين هربوا من جيوش الباي للدفاع عن بلادهم.وقد نشط هؤلاء الجنود أربعة مراكز للمقاومة بالقلعة الكبرى وجمّال وبنّان وقصور الساف يقودها تباعا الساسي سويلم والحاج علي بن خديجة وسعد بن حسين القم وولد البحر. وبعد مرحلة التعبئة مر المقاومون الى العمل على منع جيش الاحتلال من التقدم.ففي 5 أوت بارح نفر كبير من قبيلة جلاص مدينة القيروان واتجهوا نحو الشمال حيث أغاروا بضواحي باردو على قطيع من الإبل يملكه الباي الذي اتهمه السكان بخيانة البلاد وتسليمها  للعدو.

   واستجابة للنداء الذي وجهه الحاج حسين بن مسعي ، هبت جموع غفيرة من جلاص والهمامة والسواسي وأولاد سعيد ورياح والطرابلسية تعضدهم حامية القلعة الكبرى للجنود الهاربين من جيش الباي للتصدي في جهة تونس للقوات الفرنسية ومنعها من التقدم الى داخل البلاد.وتمكن هؤلاء المقاومون من ادخلا الرعب والاضطراب في صفوف العدو لمدة أربعة أيام متتالية في الفترة الفاصلة بين26 و29 أوت 1881 .ففي 26 من نفس الشهر انقضوا على المعسكرات التابعة لكتيبة المقدّم (كوريار Corréard ) المرابطة آنذاك ببئر حفيظ قرب قرمبالية.

   ولم يكتف المقاومون بذلك بل التحقوا في الليلة الفاصلة بين 28 و29 أوت بالقوات الفرنسية وردوها على أعقابها في منطقة الأربعين بعد معركة ضارية تواصلت من منتصف الليل حتى الرابعة صباحا.واثر هذا الانتصار الذي أحرزته قوات المقاومة واصل التونسيون مطاردة هذه الكتيبة التي ما انفكت تتقهقرو تتراجع عن مواقعها  ثم هاجموها من جديد يوم 29 اوت على مقربة من قرية تركي.وباعتراف السلطات الفرنسية نفسها فإن المقاتلين التونسيين قد جابهوا العدو بكل بسالة طيلة هذه المعارك.وقد برز جنود القلعة الكبرى بصف خاصة في معركة الأربعين التي استشهد فيها الساسي سويلم ، وكان من نتيجة هذه المعارك أن عرقلت المقاومة زحف القوات الفرنسية داخل البلاد ولو لفترة وجيزة بل وأجبرت كتيبة المقدم (كوريار ) على الانسحاب إلى حمام الأنف ضاحية تونس العاصمة .

  وكانت هذه الانتصارات حافزا لرجال المقاومة دفعهم الى مواصلة الهجوم على جيش الاحتلال .

ففي بداية شهر سبتمبر 1881 قامت قوات من جلاص ورياح وأولاد سعيد والهمامة والطرابلسية بمناوشات ضد الجيش الفرنسي بمنطقة زغوان وفي 14 من نفس الشهر دخلت في معركة حامية ضد جنود الفيلق الخامس حيث أصيب يوسف بن احمد ابن قايد الهمامة بجروح في يده.

   وكرد فعل على هذه الأعمال أوقف الجنرال ( صاباتييه Sabattier) خمسة عشر من أعيان زغوان واحتفظ بهم كرهائن وفرض على سكان هذه المدينة الذين اتهمهم بالتواطؤ مع المقاومين غرامة كبيرة تسلم في ظرف ثمان وأربعين ساعة وأشار إلى أن كل تأخير في الدفع غرامة اكبر من الأولى وهدد بقتل الرهائن إذا ما واصل المقاومون هجوماتهم دون أن ينبه أهالي زغوان السلطة العسكرية لذلك ، واضطر اثر ذلك المقاومون إلى تغيير طريقتهم في القتال لعدم قدرتهم على مواجهة هذه القوات الفرنسية التي تفوقهم عددا وعتادا.

   ونظرا للإجراءات التعسفية التي اتخذت ضد مدينة زغوان فقد تخلوا على طريقة الهجوم المباشر واكتفوا بمراقبة المسالك التي تؤدي إلى مدينة القيروان لكي يمنعوا قوات الاحتلال من التقدم نحو هذه المدينة     ( المقدسة) وفي هذا الإطار تمركزت قوات هامة من جلاص يقودها الحاج حسين بن مسعي في الطريق الرابط بين مدينتي زغوان والقيروان، ومن جهة أخرى استقر اولاد ادير من جلاص وفرق من أولاد سعيد والسواسي ونفات بين سوسة والقيروان تحت قيادة علي بن عمارة الجلاصي ، كما تعهدت مجموعات أخرى من جلاص والهمامة والفراشيش و هاجر لمراقبة الطرق التي يمكن ان تسلكها القوات الفرنسية في زحفها على القيروان انطلاقا من مدينة تبسة بالجزائر.

   أما السلطات الفرنسية فقد عملت من جهتها على تحقيق الهدف الذي رسمته لنفسها والمتمثل في إتمام احتلال الايالة بغزوها للقيروان التي تعتبر رمزا للمقاومة وموطنا فعليا لها.

وقد أصر (جول فيري ) على احتلال هذه المدينة المقدسة لكي يضع حدا للحملة التي شنها الصحافيون على حكومته بخصوص المسألة التونسية ، ويهدئ الرأي العام الفرنسي وذلك قبل 28 أكتوبر 1881 حتى يتسنى له إعلان هذا النصر لمجلس النواب المنتخب في شهر اوت 1881 ، أي في خضم الأزمة التونسية عند افتتاح دورته الأولى.وهذا ما يفسر تعبئة قوات الاحتلال للزحف على القيروان وفتح كل الطرق المؤدية إليها انطلاقا من زغوان وسوسة وحتى من البلاد الجزائرية .

    لقد كان نظام الحماية يهدف إلى فرض وصاية سياسية وإدارية على البلاد التونسية وذلك بالإضافة إلى الوصاية الدبلوماسية التي تقرها معاهدة باردو في 12 ماي1881 .ولتحقيق هذا الهدف كان من المفروض تخطي العديد من العقبات التي تحتّمها الحالة في البلاد التونسية والوضع العالمي، والتي تكمن أساسا في عدم استسلام الحكومة التونسية وجزء من السكان للسلطة الفرنسية،وكذلك في وجود نظام الامتيازات واللجنة المالية الدولية.فلم تكن البلاد التونسية تخضع بعد للهيمنة الفرنسية ساعة مجيء الوزير المقيم الجديد بول كامبون(Paul Cambon ) في شهر افريل1882. فكان الباي وجزء من حاشيته يعارضون إذّاك بصورة خفية هذه الهيمنة مستغلين في ذلك الخلافات القائمة بين القوى الأوربية وكانت المقاومة التونسية كامنة بالجنوب مما زاد في حذر العديد من القبائل التي يشارك الكثير من أفرادها في هذه الثورة كما كانت الصحافة العربية بمصر وخاصة بالقسطنطينية تشجع مراكز المقاومة.

   وعلاوة على ذلك فقد كانت وضعية فرنسا القانونية في البلاد التونسية غير ثابتة ، فهي لا تتعدّى بمقتضى معاهدة باردو السيادة على شؤون الايالة الخارجية واحتلال نقاط محدودة من التراب التونسي.ولم تكن هذه الوضعية لترضي بول كامبون الذي يريد حكم البلاد من أعلى إلى أسفل مع الاعتراف بالسيادة الصورية للبلاد.وكان الوزير المقيم يرى أن هناك مهاما مطروحة وفي متناول اليد يجب أن تسبق إزالة العقبات الدولية لأنها تهيئ المناخ الملائم لإلغاء نظام الامتيازات واللجنة المالية الدولية.وتتمثل هذه المهام في وضع الباي وحكومته وحاشيته تحت إمرته، وفي تقليص حركة المقاومة، وتحييد الصحافة والطرق الدينية.

   وفي هذا الإطار تندرج الاتفاقية السرية التي فرضتها فرنسا على محمد الصادق باي في شهر جويلية 1882 والتي تهدف إلى تدعيم مركزها داخل الايالة وتمكين الوزير المقيم من بسط نفوذه السياسي على حكومة الباي ومن دحر كل العقبات التونسية التي تحول دون الهيمنة الفرنسية ، وذلك في انتظار القضاء على المشاكل التي يمليها الوضع الدولي.

   وشرع الوزير المقيم بول كامبون في العمل من اجل إذعان البلاد التونسية للسلطة الفرنسية.وفعلا فإن الاتفاقية التي وقعها علي باي خليفة محمد الصادق عند تسلمه العرش في 30 أكتوبر 1882 لم تكن سوى امتدادا لاتفاقية 08 جويلية1882 مع بعض التغييرات .وكانت معاهدة المرسى في08 جوان 1883  هي أخر حلقة من مشروع الحماية الفرنسية على تونس ، حيث بمقتضى هذه الاتفاقية تمكنت فرنسا من بسط نفوذها الفعلي على البلاد التونسية. وإذا كانت معاهدة باردو قد جعلت فرنسا تسيطر على شؤون الايالة الخارجية فحسب فإن معاهدة المرسى مكنتها من التدخل في الشؤون الداخلية مع الإبقاء على سلطة الباي الذي ارتمى في أحضان فرنسا عندما التزم بإجراء الإصلاحات الإدارية التي تراها السلطات الفرنسية صالحة وكذلك بعدم عقد أي قرض دون إذن حكومة الجمهورية. وبعد ان تمكنت فرنسا من اقناع القوى الأوربية بمختلف الطرق والوسائل أما على الجبهة الداخلية فقد عمل كامبون بتونس على وضع حد لكل دعاية مناهضة لفرنسا ، فكان عليه أن يكسب حياد بعض الصحف العربية الصادرة بتركيا ومصر التي تقرأ في الأيالة والتي شهّرت بالوضعية الناجمة عن معاهدة باردو. ولأجل ذلك رأى الوزير المقيم أن أفضل طريقة هي إيقاف المبالغ التي كانت تنفق في إصدار صحف عربية في باريس مثل ( البصير) وصرف هذه المبالغ في شراء ضمائر مديري الصحف الصادرة بالقسطنطينية والإسكندرية والقاهرة أو مراسلي هذه الصحف في العاصمة التونسية. وقد عقد كامبون في هذا السياق، مع سليم فارس في أفريل 1882 وذلك بواسطة مراسل الجوائب في تونس العربي بسيّس. وبمقتضى هذا الاتفاق غيّرت هذه الجريدة موقفها من سياسة فرنسا بتونس مقابل 10.000فرنك في السنة لسليم فارس و1500 فرنك للعربي بسيّس  وقد سهل موقف فرنسا من المسألة المصرية مهمّة سليم فارس ، ففي 05 أوت 1882 نشرت جريدة الجوائب مقالا تشيد فيه بموقف الصداقة الذي اتخذه البرلمان الفرنسي تجاه الإمبراطورية العثمانية.واستطرد صاحب المقال للثناء على فرنسا مشيرا إلى اعتدال سياستها في البلاد التونسية ، كما اعتبرت الجريدة أن اعتدال السياسة الفرنسية في الايالة يعود أساسا إلى توجيهات كامبون القيمة وبأن سياسة الوزير المقيم في تونس ترتكز على صيانة حقوق التونسيين.

وفي هذا الصدد كتب كامبون في سبتمبر 1882 بشأن سليم فارس الشدياق : (... وأضيف فأقول ان مدير هذه الجريدة الهامة ( الجوائب ) قام بمهمته على اكمل وجه وبكل أمانة وساهم بقسط وافر في تعديل نظرة رجال الدين المناهضة لفرنسا بتونس ).

    واستطاعت فرنسا كذلك بحكم موقفها من القضية المصرية كسب تأييد الحزب الوطني الذي كان يعول عليه في الحصول على جلاء القوات الإنجليزية من التراب المصري.فمن أجل ذلك عدلت الصحف الصادرة في الإسكندرية والقاهرة موقفها من الحماية الفرنسية على تونس.بل ذهبت إلى ابعد من ذلك ، اذ اعتبرت أن سياسة فرنسا في الايالة مثالا للاعتدال ونقيضا للرعب الذي كانت تزرعه بريطانيا في البلاد المصرية.وقد كان دعم الصحافة العربية الصادرة بالقسطنطينية والإسكندرية والقاهرة هاما بالنسبة لفرنسا مما خول لها الوقوف في وجه بعض الصحف المعادية التي كانت تستمد مقالاتها من ألد أعداء الحماية أمثال الجنرال حسين الذي أسس جريدة أسبوعية في روما: وهي (الأنباء) ، والشيخ بيرم الذي أنشأ جريدة (الاعتدال) بالقسطنطينية.وقد أعلنت هاتان الصحيفتان في اعدادهما الاولى الصادرة عام1883 أنهما ستهتمان بالمصالح الإسلامية في البحر الأبيض المتوسط وبالمسائل التونسية على وجه الخصوص. وإذا كانت (الأنباء) لم تعمر طويلا نظرا لضعف مواردها واعتماداتها فإن جريدة الشيخ بيرم لم تلق نفس المصير ، وقد كانت تتمتع على الأرجح بدعم من الباب العالي ، فبقيت تصدر بصفة منتظمة وقد شنت حملة كبيرة على سلطة الحماية على مستوى العلم الإسلامي وبأسلوب صوفي رائع ، وأصدرت نداءات إلى كافة المسلمين تدعوهم فيها إلى نبذ الخلافات والأحقاد الحزبية والطائفية والتكتل والالتفاف حول السلطان.وقد قدرت فرنسا الخطر الذي يمكن أن ينجر عن مثل هذه الدعاية فعمدت إلى حجز الأعداد الخمسين من جريدة الاعتدال التي تصل إلى تونس أسبوعيا وذلك بالتواطؤ مع عون سري يعمل في البريد الإيطالي.

   وقد أسس الشيخ بيرم جريدة ثانية بالقاهرة وهي (الإعلام) حيث أظهر عداءه لفرنسا ، الأمر الذي جعله يدخل في نزاع مع الوطنيين المصريين الذين اتهموه بالتواطؤ مع بريطانيا.

   ومثلما فعل كامبون في الميدان الصحافي حاول أيضا ربح بعض الشخصيات السياسية الهامة وبالأخص الشيخ ظافر المدني المرشد الروحي للسلطان عبد الحميد الثاني ومنشط الجامعة الإسلامية.وقد كان لهذا الشيخ تأثير كبير على إتباع الطريقة السنوسية التي عرفت بمناهضتها للهيمنة المسيحية. وقد كان أخوه حمزة ، يشجع انطلاقا من طرابلس ، قادة المقاومة التونسية .ولم يكن من السهل اذن استمالة الشيخ ظافر.فعمدت السلطات الفرنسية إلى رشوة أخته عائشة التي كانت تقيم بصفاقس . وقد تحصلت عائشة على مبلغ 15.000 فرنك بالإضافة إلى إعفائها من دفع غرامة الحرب التي تقدر بـ 8448  فرنكا، وتعهدت مقابل ذلك ببذل مساعيها الحميدة لتضع وزن عائلتها في خدمة فرنسا . وقد اتبعت فرنسا سياسة الرشوة أيضا لإضعاف حركة المقاومة في البلاد التونسية. إذ استطاع فيرو( Féraud) قنصل فرنسا بطرابلس بإيعاز من كامبون إخضاع ابن أخ علي بن خليفة ، محمد بن صالح بن خليفة الذي قبل التخلي عن المقاومة مقابل بعض الامتيازات وألتحق بفيرو في تونس وفي باريس حيث منحته وزارة الخارجية 20.000 فرنك ونصبته قائدا على نفزاوة.

وكذلك كان الشأن مع خير الدين الوزير الأكبر السابق إذاك في اسطنبول إذ أبقت فرنسا على الجراية السنوية البالغة  30.000 فرنك التي تسند إليه من ميزانية الايالة وذلك حتى لا يناهض الحماية الفرنسية في البلاد التونسية.

وهكذا تمكنت فرنسا من بسط نفوذها السياسي على الايالة بعد أن ضمنت وصايتها الدبلوماسية التي أقرتها معاهدة باردو.ومن جهة أخرى فقد عملت السلطات الفرنسية على مناهضة الباي وحاشيته لكي تهيمن على الإدارة التونسية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الرابعة: المقاومة السياسية التونسية  في مطلع القرن العشرين( النشأة والتطور)

    تعتبر تونس من بين بلدان إفريقيا الشمالية الأكثر تأثرا بفكر المشرق العربي، وذلك لموقعها الجغرافي الذي جعلها منذ تأسيس مدينة القيروان سنة 675 م القاعدة الأولى لانتشار الإسلام في هذه المنطقة.

  ومنذ فجر حركة الوحدة العربية أمّها زوار من الشرق كشفوا لها عن مرامي تلك الحركة.كما تعتبر جامعة الزيتونة ـ أو جامع الزيتونة ـ حامية الدين والتقاليد والسنة بإفريقيا الشمالية بأسرها، ويمتد تأثيرها حتى المغرب الأقصى. ولم تنتشر دعوة العلماء في الأوساط الحكومية من المخزن المواظبة على الدروس و الاملاءات القرآنية فحسب، بل في أوساط المثقفين ثقافة فرنسية أيضا.فانضم هؤلاء إلى حركة أولئك العلماء الرامية إلى الإصلاح الروحي. وهكذا تألفت كتائب من الأنصار المنحدرين من الطبقة المتوسطة المشتملة على سكان المدن وأصحاب التجارة والصناعة في الساحل وبنزرت و صفاقس، وهم عازمون على إتباع المنهج الديني ومقاومة المتجنسين لأنهم كانوا يعتبرون مرتدين. وان رجال الإعمال المحرزين على الحجر التجارية و الفلاحية  و التعاضديات الأهلية للقرض، وقد كانوا دائما يتوجهون إلى السلطة العمومية بشواهد الإخلاص، تراهم قد اضطروا إلى مسايرة ذلك التيار الديني الذي يصطبغ أحيانا بصبغة البغض للأجانب. ومن جهة أخرى توجد 19 طريقة تمثلها في البلاد التونسية 500 زاوية، ينتمي إليها ما يقارب 300.000 من (الأخوان) ، ضف إلى ذلك 40.000 من سلالة الأولياء و إتباعهم الذين يخدمون 178 زاوية طرقية، وأخيرا 622 من قبور الصالحين المقدسة، قد اثر مجموع ذلك التأثير البليغ خاصة على العناصر المحافظة والشعبية من أعراب وعمال، بالرغم من هجمات العلماء الناجحة. وقد حافظت الطرق على إتباع لها في الطبقات العليا، حتى في القصر الملكي.أما الأقلية من المتطورين فقد تشبعوا بمذهب العلوم الصحيحة والابتعاد عن التقليد الأعمى، وذلك خاصة أثناء أسفارهم بفرنسا وبترددهم على أوساط (كجمعية إخوان الصفا) التي تؤمن بتفوق العقل المشتقة من نظرية (فولتارVoltaire ).

   ثم بدأ الوعي الوطني يبرز بين الأهالي التونسيين في مطلع القرن العشرين عندما امتزجت أوضاع ناجمة عن النظام الاستعماري بظروف أخرى سابقة للحماية، لأن نظام الحماية كان قد افرز تناقضات اقتصادية واجتماعية وسياسية كانت تظهر بحدة كلما نما الاستعمار بين مصالح الأهالي ومصالح الجالية الفرنسية بالبلاد التونسية.وقد اضر النظام الاستعماري بالأغلبية الساحقة من الأهالي التونسيين في المدينة كما في الريف، وبدا كالمستغل لهما معا، فشارك في التوحيد بين مختلف فئات الأهالي، فقد اتجه التونسيون أمام هذا الخطر المشترك ، إلى تجاوز تناقضاتهم الخاصة ونتج عن ذلك شعور باللحمة فكان هذا الشعور أساسا للوعي الوطني.

كما حصلت ظروف أخرى ناجمة عن نظام الحماية ساعدت على تنمية هذه اللحمة وبالتالي في تنمية هذا الوعي،  مثل دخول الرأسمالية الأوربية وتزايدها إثر معاهدة باردو، التي مكنت البلاد التونسية من التحول من اقتصاد معاشي إلى اقتصاد سوق،وفعلا فإن نمو وسائل النقل، وإلغاء الجمارك الداخلية وتوحيد الموازين والمكاييل لتيسير المعاملات التجارية كل ذلك قد ساهم في تصفية التجزئة الإقطاعية التي كانت قائمة في الماضي وجعل الايالة كيانا اقتصاديا واحدا.فلم تعد مختلف مناطق البلاد تعيش معزولة كما كانت في السابق، بل أصبحت منذ ذلك الحين ، تستطيع الإنتاج لا لضمان العيش فقط بل للبيع أيضا ، وهكذا رسم بينها تقسيم في العمل ـ محدود لا محالةـ وأصبحت اقتصادياتها في تكامل متزايد ، وقد أحدثت هذه الصلة الداخلية شيئا من الالتحام الاقتصادي بين هذه المناطق وبالتالي تماسكا بين المصالح وشكل بذلك دعامة الوعي الوطني. وعلاوة على ذلك ، فإن تطور المواصلات قد ساعد الأهالي على التنقل و بالتالي على الاختلاط فتقلصت بذلك الفوارق في العقليات بين مختلف الجهات ولاسيما بين سكان المدينة وسكان الريف ، وهذا التقريب بين الأهالي ساعد على اللحمة الوطنية بالبلاد، وزيادة على هذا ن فإن وسائل النقل قد ساعدت أيضا على تدفق الأفكار وتداولها وهو ما مكن التونسيين من إدراك وضعهم المشترك والوعي المتزايد بخطر النظام الاستعماري عليهم.

  وقد ازدادت هذه الظاهرة بازدياد سكان المدن الذين نموا بنمو استعمار الأراضي واستقرار المعمرين في الأراضي و الضيعات لاستغلالها لأنفسهم.

وقد لجأ إلى المدن العديد من صغار الفلاحين الذين سلبت أراضيهم بصفة مباشرة أو غير مباشرة، و طردوا من شغلهم تبعا لمكننة الفلاحة الاستعمارية. وفي المدينة نما وعيهم الوطني بالاحتكاك مع التيارات الفكرية المتواجدة في المحيط الحضري.كما أن تنامي الوعي الوطني في صلب الأهالي قد دعم بالضرورة من جراء نزوح الريفيين إلى المدينة ـ وهي ضمير الأمة ـ وما ينجر عنه من نمو السكان الحضريين. كما أن الوعي الوطني كان ينمو تبعا لتقهقر النزعة القبلية المنجر كذلك عن النظام الاستعماري.حيث كانت القبائل بالبلاد التونسية قبيل الحماية عبارة عن دويلات داخل الدولة ، وبصفة عامة كانت العصبية تطغى على الوعي الوطني، وقد أدى استعمار الأراضي منذ 1881 إلى إضعافهم وتقليص أسباب الخلافات بينهم، فساعد بالتالي على تقريب بعضهم من بعض، وفعلا فقد أضعفت السلطات الاستعمارية القبائل البدوية عندما عمدت دون تمييز إلى سلبها قسم كبير من أراضيها ، وعندما قلصت تدريجيا من الأراضي المشتركة فحولتها إلى أراضي (الملك) خففت من العصبية القبلية التي كانت تستمد قوتها من الصبغة الاشتراكية لملكية الأرض وما يترتب عنها من ترابط في المصالح، وهكذا.هذه السياسة ولدت نتيجة عكسية حيث أخذت أسباب الخلافات تتجه نحو الاضمحلال ، بل وتكون بين القبائل المعادية نوع من التوحد أمام الخطر المشترك، وبصفة عامة فكلما نما استعمار الأراضي، تجاوزت القبائل خلافاتها القديمة وحل محل العصبية القبلية الشعور بالوعي الوطني. وهناك ظروف أخرى سابقة للحماية ساعدت على بروز وعي وطني في نفوس الأهالي، و ميزت البلاد التونسية منذ زمن بعيد وهي:

- وحدة التراب:

   وهي تنشئ روابط بين سكان البلاد الواحدة الذين يدركون أولا انتماءهم إلى نفس المنطقة فيتولد عن ذلك تعلق بأرض الوطن ونوع من الإرادة لصد كل المخاطر التي تهدده ، وإذا كانت حدود القطر التونسي عريقة في القدم فإن الوعي القطري أي الشعور بالانتماء إلى نفس البلاد كان عميق الجذور في نفوس التونسيين عند انتصاب الحماية.وفعلا فإن أبناء البلاد ، وإن تخلى عنهم الباي وحكومته فتركهم وشأنهم ، قد تصدوا عام1881 للدفاع عن هذا القطر بالذات فقاوموا الاحتلال الأجنبي وامتدت هذه المقاومة كما أسلفنا إلى جنوب الايالة بمشاركة مختلف القبائل والمناطق التي نسيت إذاك خلافاتها وهبّت للدفاع عن بلاد تشترك فيها جميعا.

- وحدة اللغة:

لئن كانت وحدة التراب تشكل شرطا أوليا لنشوء الوعي الوطني ، فإن وحدة اللغة هي خميرته  حيث تساهم كأداة تجاوب بين مختلف قطاعات الأهالي في تقاربهم وتوعيتهم بمصيرهم  المشترك، وتساعد بالتالي على بروز نوع من اللحمة الوطنية.وقد وجدت وحدة اللغة بتونس منذ زمن زحف بني هلال على البلاد في منتصف القرن الحادي عشر للميلاد واستقرارهم بها وفعلا فإن انتصاب آلاف من السكان أصيلي الجزيرة العربية قد أتم تعريب البلاد بصف تكاد تكون شاملة ، ومنذ ذلك الحين صار التونسيون يتكلمون العربية باستثناء بضعة آلاف منهم بقوا متمسكين بالبربرية لغتهم الأصلية.

 وحدة الثقافة:

   كما أن للغة دورا آخر لا يقل أهمية فهي تحدد فكر السكان بل وحتى عقليتهم وتنقل بينهم حضارة أدبا، فهي لهذا أساس لوحدة الثقافة التي تشكل رابطا قويا جدا بين الناس وبالتالي تساعد على نمو الوعي الوطني ، فهي تنقل ثقافة شفوية تتمثل في الشعر الشعبي الذي يصور في أسلوب جميل أمجاد العرب، ويمثل الشاعر الشعبي دورا شبيها بدور الصحافي والمؤرخ لعصره ، فهو يسجل عن كثب وبطريقته الخاصة وبحماس شديد أحداث عصره الهامة .وهكذا كان الشأن بالنسبة إلى حركة مقاومة الاحتلال الفرنسي من 1881 الى1884 وبصفة عامة إلى الصمود أمام الاستعمار منذ انتصاب الحماية،  ويمجد الشاعر عامة شجاعة المقاومين ويبكي القادة و الأبطال الذين استشهدوا في ساحات الوغى إبان مقاومتهم للعدو، ويشكل هذا الشعر الشعبي المتناقل شفويا عبر البلاد سجلا لجميع الإحداث الهامة التي وقعت في الريف أو في المدينة، ويحفظ هذا الشعر في ذاكرة الناس ويظل متنقلا من جيل إلى آخر فيكتسب على مر الأيام وبفعل الأسطورة مزيدا من التأثير والوقع في النفوس.

  والى جنب الثقافة الشفوية يوجد بالبلاد التونسية ثقافة مكتوبة تمجد هي الأخرى التاريخ العربي وبصفة خاصة الهلاليين حيث يقدم هؤلاء كمثال للشجاعة و الإقدام و الإخلاص في القتال.

  وتتخذ هذه الثقافة المكتوبة صبغة سياسية عندما تنقلها الصحافة العربية التي عرفت من 1881 الى 1911 حسب الظروف شيئا من الازدهار فكانت هذه الصحافة العربية كثيرا ما تقرأ في المجالس والملتقيات العمومية فتبلغ رسالتها إلى قسم من السكان بما فيهم الأميين، وقد ساهمت الصحف العربية بنقلها لأفكار سياسية واقتصادية واجتماعية في تكوين فكر عام وبالتالي وعي وطني في صلب السكان التونسيين.

- وحدة العقيدة:

تشمل الثقافة في معناها العاملين أيضا ، والسكان التونسيون ينتمون ـ باستثناء أقلية قليلة من اليهود ـ إلى دين واحد هو الإسلام والدين في تونس عامل توحد بحق.فلا توجد في البلاد التونسية  كما  هو الشأن في الشرق طوائف متنافسة ، وكل السكان التونسيين تقريبا سنيون.

ينتمون عدا أقلية من أصل تركي أو مملوكي إلى المذهب المالكي الذي أدخل إلى البلاد التونسية في القرن التاسع على يد الأغالبة. فهم لذلك لا يرفضون التناقضات الدينية الكثيرة في الشرق الأوسط والتي  تشكل مصدر توتر بين المجموعات البشرية العائشة في نفس القطر .

    ومن البد يهي أن الانتساب إلى دين موحد لابد أن يساعد على تقارب السكان التونسيين ويولد فيما بينهم نوعا من اللحمة الوطنية.

    وزيادة على هذا فإن الإسلام في بلاد المغرب ، أوجد روابط أخرى بين مسلمي الايالة، الطرق الصوفية التي كانت منتشرة في بلدان المغرب العربي حتى قبيل الحرب العالمية الأولى، تظهر بفضل    ( زواياها ) وعديد إتباعها ومريديها الموزعين عبر البلاد كجمعيات محكمة التنظيم على غرار الأحزاب السياسية العصرية ، وتكون إذن روابط قوية بين السكان.

   إلا أن العامل الديني ـ خلافا لما يظن البعض ـ لا يضطلع بدور حاسم في تكوين الوعي الوطني، بل بدور المساعد على أكثر تقدير. وفعلا فوحدة الدين لم تمنع ما كان بين القبائل التونسية من فتن و صراعات لم تنته إلا بظهور الوعي الوطني ونموه.ولاشك أن مشايخ الطرق كانوا يستطيعون التدخل لتهدئة الخصومات بين أتباعهم ن ولكن هذه الطرق علاوة على تعددها وتزاحمها على جلب السكان إليها وهو ما يمكن أن يخلق عوامل الشقاق، فإنها لم تكن دائما ذات صبغة وطنية ن وكان مجال عملها كثيرا ما يتجاوز حدود بلد واحد، ليشمل كل المنطقة المغاربية.

   ثم أن الطرق الدينية لا تلعب دائما دورا محركا في بعث الوعي الوطني بل كان البعض منها معروف بولائه للسلطات الاستعمارية تقبل خضوع المسلمين( للكفار) وتستعمل نفوذها لدى السكان لكبح مقاومتهم لهذه السيطرة ، وهكذا فإن شيخ الزاوية القادرية بالكاف الشيخ قدور الميزوني الذي كان شديد الارتباط بقنصل فرنسا في هذه المدينة قد وضع سنة 1881 إبان دخول القوات الفرنسية كل نفوذه الأدبي في خدمة فرنسا وأقنع سكان الكاف بأن لا يعارضوا احتلال هذه المدينة، وكذلك عمل شيوخ التيجانة وهي من أهم الطرق الصوفية المنتشرة في كل بلدان المغرب ، ومما لاشك فيه أن هذا السلوك هو موقف وجهاء وأعيان ينزعون بصفة عامة إلى محاباة سلطات الحماية للحفاظ على امتيازاتهم، والاستزادة منها على أن هؤلاء الشيوخ كان لهم فعلا تأثير كبير باسم الدين على جانب لا يستهان به من السكان فكانوا يستطيعون بطريقة أو بأخرى حثهم على الإقتداء بهم وجرهم إلى الوجهة التي يريدون ، لذلك لا ينبغي تضخيم دور العامل الديني في هذه الفترة في بعث الوعي الوطني.

فهذا العامل لم يظهر أثره الحقيقي إلا إبان نشأة الوعي الوطني ، فكان عاملا مساعدا على نشأة هذا الوعي وتطوره وانتشاره بين السكان.

  وهنا يجب أن نفرق بين العامل الديني عند قادة المقاومة المسلحة (الجهاد) منذ انتصاب الحماية مباشرة  وبين العامل الديني عند بعض شيوخ الطرق الصوفية في تونس ، حيث كان الدين الإسلامي هو المحرك الأساسي لحركة الجهاد كما أسلفنا.

   وبعد فشل المقاومة المسلحة حاول أعيان الحاضرة القيام بحركة احتجاجية غداة الزيارة الأولى التي أداها الشيخ محمد عبده إلى تونس من 06 ديسمبر 1884 إلى 04 جانفي 1885 حيث خرجت مظاهرة عظيمة بقيادة الشيخ محمد السنوسي من العاصمة إلى ضاحية المرسى، وقابل وفد من المتظاهرين الأمير علي باي لإبلاغه مطالب سكان مدينة تونس المتمثلة في الآتي:

• إلغاء قرار الزيادة في فاتورة استهلاك الماء الصالح للشرب.
• إلغاء القرار المتعلق بمطالبة السكان بدفع الأداءات البلدية المتأخرة.
• المطالبة بإجراء دفن أموات المسلمين وفق الأحكام الإسلامية.

     ثم اتسع نطاق هذه الحركة التي اتخذت شكلا جماعيا، إذ وقّع على العريضة الاحتجاجية ما يناهز الثلاثة آلاف تونسي فخشي المقيم العام الفرنسي أن تتحول حركة الاحتجاج إلى حركة مناهضة لنظام الحماية ذاته ، فقرر أولا التراجع عن القرارات التي أثارت غضب التونسيين ، ثم توجه نحو زعماء الحركة ، فاتخذ ضدهم قرارات بالنفي والعزل.

ولم يمض على زعيم حركة الاحتجاج محمد السنوسي إلى قابس سوى شهرين، حتى وجه رسالة إلى الحكومة طالبا العفو ثم تحول بين عشية وضحاها من معارض إلى متعاون مع حكومة الحماية. 

وتعتبر تونس هي أكثر بلدان شمال إفريقيا تأثرا بالتيارات الفكرية الإسلامية في المشرق العربي، ولذا كان لحركة جمال الدين الأفغاني، و الإمام محمد عبده في مصر، صدى في النهضة الإصلاحية في تونس. وكثير من رواد الحركة الوطنية في تونس اتصلوا بالإمام مباشرة ، كما أنه زار تونس وحث أهل الفكر فيها على تأسيس مدرسة الخلدونية، على نمط المدارس الوطنية في مصر.ولهذا فإن مصادر الحركة الوطنية التونسية تعود في الغالب إلى أصول إسلامية بحتة ، وهي تتمثل في الآتي:

أولا:في حركة التجديد التي انتشرت في المشرق ، سواء كان ذلك إحياء العقيدة أم تجديد النظم السياسية .

ثانيا: في المراكز الإسلامية العريقة القائمة في تونس وعلى رأسها جامع الزيتونة التي ينتمي إليها  محمد السنوسي الذي قدم عريضة الاحتجاج الموقعة من أعيان البلاد يطالب فيها بإلغاء الحكم المباشر وإحياء الدستور. كما تخرج من هذه الجامعة شخصية وطنية أخرى هي، الشيخ المكي بن عزوز ، الذي إهتم بإحياء مبادئ خير الدين وسياسته الإصلاحية وكان له فضل في تخريج الجيل الأول من المناضلين التونسيين، وعلى رأسهم الشيخ عبد العزيز الثعالبي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الخامسة: حركة الشباب التونسي:

       لقد اتسع و ازداد نشاط الحركة الوطنية التونسية في هذا الطور الأول من حياتها على يد فريق من الشبان التونسيين الذين أتيح لهم حظ من الثقافة الحديثة.وقد مهد خير الدين باشا التونسي لظهور الطبقة الأولى من هؤلاء المجددين حيث أسس مدرسة الصادقية سنة 1875 لتدرس العلوم الحديثة في إطار عربي.وفيها تخرج رواد الحركة الوطنية التونسية من أمثال بشير صفر وعلي باش حامبة. وكذلك أيد خير الدين حركة الجامعة الإسلامية بسياسته الرامية إلى التقرب للدولة العثمانية، والتي استمر هؤلاء الرواد في الدعوة إليها فأشبهوا بذلك اتجاه الحزب الوطني المصري.

      ولما فشلت الحركة الطلابية اتجه قادة الفكر في تونس اتجاها جديدا يرمي إلى نشر التعليم والدفاع عن الشخصية التونسية، والتعريف بالحضارة العربية الإسلامية. وقد تزعم هذه النزعة خريجو المدرسة الصادقية بقيادة بشير صفر الذي وجد كامل الدعم لدى رجال الإصلاح بجامع الزيتونة وعلى رأسهم الشيخ سالم بوحاجب. ولم تعارض حكومة الحماية هذا الاتجاه بل ساعدت أصحابه على إصدار جريدة أسبوعية تنطق باسم الحركة الإصلاحية، وهي جريدة الحاضرة التي صدر عددها الأول يوم 08 أوت 1888 وقد كان منهاجها يتمثل في الدعوة إلى الأخذ بأسباب التمدن الغربي ونشر التعليم ، مع اجتناب الخوض في المسائل السياسية.وتطبيقا لهذا المنهج أسس جماعة الحاضرة في سنة 1896 جمعية ثقافية أطلقوا عليها اسم (الجمعية الخلدونية ) ، هذه التي بادرت منذ انبعاثها إلى تنظيم دروس باللغة العربية في التاريخ والجغرافيا والرياضيات والفيزياء والكيمياء، إلى جانب المحاضرات العامة.كما أنشأت مكتبة عامة زاخرة بالكتب والمجلات العربية والفرنسية.

وفي 23 ديسمبر عام 1905 تأسست ( جمعية قدماء تلامذة المدرسة الصادقية ) تحت رئاسة خير الله بن مصطفى بمعية مجموعة من قدماء الصادقيين وفي مقدمتهم علي باش حامبة وقد اتجهت في أول عهدها إلى الكتّاب ورجال الفكر الفرنسيين ودعتهم إلى إلقاء محاضرات باللغة الفرنسية ، ثم ما لبثت أن فتحت المجال في وجه علماء الزيتونة المعروفين بأفكارهم الإصلاحية ، فأمكن بذلك تفادي القطيعة بين الزيتونيين والمدرسيّين.

   وكان عبد العزيز الثعالبي قد أصدر عام 1901 جريدة ( سبيل الرشاد ) وكان هذا الأخير من طلبة جامع الزيتونة ومعهد الخلدونية ومن الملازمين للشيخ سالم بوحاجب والأستاذ البشير صفر ، ثم عطلها وسافر إلى الأستانة ومصر. ويقول عنه الأستاذ محمد الفاضل بن عاشور :

( عاد منهما غريب الشكل والنزعة والمنطق والقلم ، يتكلم بأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومعجبا بالكواكبي وحسن حسني الطويراني ويدعو إلى التطور والحرية وفهم أسرار الدين وأسرار الوجود ، ويعجب بمقالات الحكماء والطبيعيين ، ذلك هو الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي لم يكد يرجع من مصر حتى أحاطت به هالة من أهل العلم والأدب ، أصبحت ألزم به من ظله ، فكان يتنقل بهم في مجامع العاصمة التونسية ، مأخوذين بحلاوة تعبيره وفصاحة منطقه وقوة عارضته ، ومقدرته على تحليل المواضيع استرسالا بلا ملل ولا فتور وبدأ الناس يلتقطون من كلامه سقطات في مسائل الخلاف بين الصحابة والأولياء و الكرامات ويشيعونها على وجهها أو على غير وجهها حتى بلغت أسماع كبار الشيوخ الناقمين على التطور فأثارتهم ثورة عارمة أدت إلى تناسي خلافاتهم ودفعتهم لمقاومة الثعالبي و الخلدونية مقاومة لا هوادة فيها ، وقد تقدموا بدعوى إلى المحاكم ضد عبد العزيز الثعالبي الذي اعتبروه خطرا عليهم وعلى مصالحهم وخاصة في هجومه على الرجعية والرجعيين و المتدروشين، وقد حوكم الثعالبي وسجن فكان سجنه انتصارا للحركة الجديدة).

    ومنذ صدور قانون الصحافة الجديد عام 1901 أصبحت الصحف على كثرتها تخوض في المباحث الدينية وتناصر الفكرة الإصلاحية ، وأصبحت فكرة العروى الوثقى منتشرة في تونس وصار لأفكار محمد عبده صدى بعيد في تونس . ولما أحس بهذا الارتباط بينه وبين التونسيين ، خاصة وأن الأشياء التي كان ينادي بها في مصر قد تحققت في تونس بتأسيس معهد الخلدونية وما انبعث عنه من حركة إصلاحية ، قرر في شهر أكتوبر سنة 1903 زيارة تونس والجزائر للاتصال بإخوانه هناك.وقد استقبل من قبل رجال الإصلاح في تونس استقبالا حارا وأقامت الحركة الإصلاحية وخاصة جماعة جريدة الحاضرة احتفالا بمقدمه ودعي لإلقاء محاضرة بالخلد ونية عنوانها ( العلم وطرق التعليم ) أيد فيها بشدة الاتجاهات الإصلاحية التي كان ينادي بها رجال الحركة الإصلاحية بتونس. وتعتبر الأفكار الإصلاحية التي بسطها الشيخ محمد عبده في محاضرته الركيزة التي قامت عليها حركة إصلاح برامج التعليم الزيتوني  وقد تولت نشرها تباعا جريدة الحاضرة ونقلتها عنها كل من( المؤيد) و(المنار) كما تم طبعها مرتين ، مرة بتونس والأخرى بمصر.

  إذن لقد كانت بحق العوامل السالفة الذكر بمثابة التربة الخصبة التي نبتت ونمت فيها بذرة الحركة الوطنية التونسية علي أسس صحيحة ومتينة حيث بدأ الوعي لدى الشباب التونسي يتجه الى العمل السياسي والتنظيمي لأن الحركة الوطنية التونسية لم تظهر في بداية الأمر منظمة إلا في أوائل القرن العشرين ولا يعني ذلك انعدامها في الأعوام السابقة ، فقد بدأت بمحاولات فردية عديدة قام بها بعض رجالات تونس في معارضة السلطة الفرنسية، ومقاومة كل مشاريعها الاستعمارية وأشهر رجال المقاومة في هذا العهد محمد السنوسي والبشير صفر ، الذي يعد بحق أب النهضة التونسية الحديثة.وأخذت فكرة العمل السياسي والتنظيمي تتبلور في أذهان المثقفين التونسيين وفي سنة1907 بالضبط تأسست أول حركة سياسية منظمة لمقاومة الاستعمار في تونس بقيادة علي باش حامبة والشيخ عبد العزيز الثعالبي ومحمد باش حامبة. وقد تأثرت هذه الحركة في نظامها وأهدافها (بحركة تركيا الفتاة). وقد لعبت هذه الحركة دورا قويا وبارزا في الفترة الواقعة بين سنة 1907 وسنة 1912.وقد كانت تتمتع بتأييد شعبي قوي، وبدأت في محاولة تنظيم الجماهير في إطار الحزب وبذلك خرجت من الإطار الذي أراد الفرنسيون أن تكون عليه والمتمثل في محاولة إيجاد مجموعة من المثقفين تكون أداة في أيديهم تساعدهم على نشر الثقافة الغربية كي تحل محل الثقافة العربية الإسلامية، لكن التجربة التي كانت لهؤلاء مع الفرنسيين جعلت منهم وطنيين مرتبطين بشعبهم وبأمتهم.  وكانت هذه أول ضربة توجه للاستعمار الفرنسي من طرف التونسيين المثقفين بالفرنسية ومن شباب تونس المرتبطين أشد الارتباط بوحدة الأمة العربية في المشرق والمغرب.وأول عمل قامت به حركة تونس الفتاة هو إنشاء جريدة ناطقة باللغة الفرنسية في07 فيفري سنة 1907 سميت بجريدة ( التونسي) وأعلنت برنامجها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وانظم إليها أغلب الشباب ، وساندها الشعب وتضامن معها . وبذلك تم قبر الخلافات على الصعيد الثقافي بين المثقفين ثقافة والمثقفين ثقافة فرنسية أي أن ( الأنتلجنسيا) المثقفة ثقافة زيتونية والمثقفة ثقافة فرنسية تضامنتا ، وكان أبرز وجوه هذا التضامن هو انضمام الشيخ عبد العزيز الثعالبي للعمل مع باش حامبة في حركة تونس الفتاة.وعندما لاحظت سلطات الحماية ابتعاد حركة الشباب التونسي عن المسار الذي حدده مؤتمر مرسيليا أصيبوا بالخيبة وراحوا يعيدون الكرة من جديد لدفع الشباب التونسي إلى الانحراف، فدعوا إلى عقد مؤتمر جديد في باريس في سنة 1908 واختاروا له عنوانا جديدا هو مؤتمر شمال إفريقيا ، مستفيدين من التجربة الماضية لكي يوقعوا بالحركة الوطنية في الفخ

  وكان المتحمس أكثر لهذا المؤتمر هو المقيم العام الفرنسي السابق بتونس السيد ( ريني ميلي  René Millet) حيث تمت دعوة المثقفين التونسيين من خريجي المعاهد فحضر وفد من سبعة مفكرين برئاسة زعيم الحركة الإصلاحية البشير صفر، ومساعده خير الله بن مصطفى وعبد الجليل الزاوش، وعين لرئاسة هذا المؤتمر الحاكم الفرنسي بالجزائر ( جونارJounard) أحد الدهاة الكبار الذين يدعون للتقارب مع العرب لفرنستهم.وألقى ريني ميلي خطابا مطولا أثنى فيه على الحضارة العربية الإسلامية ، ووجه لوما شديدا للأوربيين الذين حكموا حكما طائشا ـ على حد قوله ـ على جميع الثقافات ماعدا الثقافة الأوربية ، وأشاد بالدور الذي لعبه الإسلام في نشر العلم في أوربا وفي تقدم العلوم والحضارة الإنسانية ، ولكنه أكد على وجوب تقوية الحضور الفرنسي في شمال إفريقيا وذلك عندما صرح بأن معرفة الأوربيين للإسلام شرط أساسي للحفاظ على وجودهم في شمال إفريقيا واستمرار مصالحهم هناك  والمتأمل في هذا الاتجاه

يجد أن ريني كان يريد أن يقول أنه ليس في نية العرب الشمال إفريقيين الانفصال عن فرنسا، لكن الفرنسيين أخطأوا في ذلك فجاء موقف المفكرين التونسيين ليبخر أحلامهم ويكذب أمانيهم.

وقد أتضح ذلك جليا في موقف كل من البشير صفر وخير الله بن مصطفى إذ أكد الأول على عروبة تونس موضحا أنها جزء من الوطن العربي والعالم الإسلامي وطالب الثاني بتعريب التعليم وإنشاء مدارس ابتدائية على غرار المدارس المصرية والسورية. وسجل الشباب التونسي انتصارا فكريا في هذا المؤتمر فكان لهذا الانتصار صدى جيدا في نفوس الوطنيين التونسيين جميعا.

    أما الصحافة الفرنسية فلم ترحمهم إذ شنت عليهم حملة شعواء ، وخاصة خير الله بن مصطفى الذي طالب بتعريب التعليم . وبدأت الحركة الوطنية تحقق على الصعيد الثقافي الانتصار تلوى الآخر وبدأت ملامح الانفصال عن الفرنسة تبدو واضحة بل وتقترب شيئا فشيئا من جذورها التاريخية ذات البعد العربي الإسلامي. وكانت جماعة الشباب التونسي واثقة من رسالتها وخاصة عندما نظّمت صفوفها في الحزب الإصلاحي سنة 1907 وأصدرت جريدتها الأسبوعية  ( التونسي Le Tunisien) ابتداء من 07 فيفري 1907 كما أسلفنا الذكر.

    ولئن بدا برنامج هذه الجماعة الاقتصادي محتشما وأقتصر على المطالبة بالمشاركة في التحصيل على الأراضي بواسطة بعث مراكز أهلية للتعمير، واحتلت مسألة التعليم المقام الأول من مشاغلها من دون أن يحظى تعليم الفتاة بالاهتمام الكافي، فإن الصبغة السياسية التي إكتستها هذه الحركة كانت أبرز مما جاء في تقارير محمد الأصرم. التي قدمها في مؤتمر مرسيليا 1906 وكانت جريدتهم تنادي بإلغاء القرارات التي تنص على منع الأهالي من المشاركة في مناظرات الدخول للوظائف الإدارية ولا تسمح لهم إلا بتقلد مناصب ثانوية مثل منصب مترجم ، ومنصب حاجب وعون تنظيف من دون أن يكون لهذا الحرمان أي مبرر. كما نادت بحق الأهالي في تبليغ صوتهم ضمن مجلس منتخب ، ووضع حد لحرمانهم من كل تمثيل لدى السلطات العمومية. وكان المشكل موضوعا بكل وضوح في الوقت الذي كانت فيه الإقامة العامة بصدد إعداد مشروع لتغيير نظام الجمعية الشورية التي لم يكن التونسيون ممثلين فيها بعد.     

   وكان الحزب الإصلاحي أو حزب الشباب التونسي الذي بلغ عدد منخرطيه آنذاك حوالي ألف منخرط يعتمد في الواقع على عدد قليل من المناضلين المنحدرين من برجوازية أصلها من المماليك وهي طبقة الأتراك الحاكمة.

   وكان الزعماء والأتباع متفقين على وجوب الدفاع عن الحضارة الإسلامية ولكنهم كانوا مختلفين فيما يجب اتخاذه من المواقف. ولم يقطع الصلة بالتقاليد الحضارية إلا عدد ضئيل نذكر منهم عبد الجليل الزاوش. ومن المناصرين للروح العصرية الذين تفتحوا على الثقافة الغربية ولكن جذورهم بقيت موصولة بالحضارة الإسلامية نجد علي باش حامبة أما من اقتصر تكوينهم على التعليم الزيتوني أو الأزهري فنجد الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي تعهد بتحرير الصفحة العربية من جريدة  (التونسي) لأنه يجهل اللغة الفرنسية، انظم إلى جماعة الشباب التونسي بتأثير من البشير صفر رغم تحفظه على بعض مطالب الشباب التونسي وبقدر ما كان الثعالبي محافظا كان المحامي حسن قلاتي متحررا إذ كان يميل إلى الإصلاحات المعتدلة التي تستسيغها السلطات الاستعمارية أكثر من الهجومات العنيفة وكان هذا المحامي قد تربص أول الأمر في مكتب المحامي علي باش حامبة ولئن لم تسمح مقتضيات الدعاية الصحفية والجدل مع الصحف الفرنسية الصادرة بتونس لجماعة الشباب التونسي بتقديم برنامج متماسك فإنهم على كل حال تمكنوا من بلورة مطالبهم فأكدوا أكثر فأكثر وطنيتهم وتعلقهم بحضارتهم مع ميلهم إلى توخي سياسة تقارب مع الفرنسيين.

   إنهم لم يطالبوا باستقلال بلادهم إذ كانوا يرون فائدة فيما تقدمه فرنسا من زاد ثقافي و اقتصادي ولكنهم كانوا يرون أن الكرامة الإنسانية تقتضي أن يتساوى المستعمرون مع المستعمرين وحرصوا على وضع حد لنيل فرنسا من الشخصية التونسية فاقترحوا منذ 1906 منح البلاد التونسية دستورا إلا أن ذلك لم يكن الأصل في مطالبهم. وكانوا يرفضون قبل كل شيئ الإجراءات التي تفاضل بين التونسيين والفرنسيين ولو رضي بها الشعب التونسي رغم أنهم كانوا لا يعرفونه تمام المعرفة ويعتبرونه خاملا ، قصير النظر ، مستسلما للقضاء والقدر.

وتمكنت جماعة الشباب التونسي من عرض برنامجها في باريس نفسها حيث خصص مؤتمر باريس المنعقد بالمدرسة الحرة للعلوم السياسية من 06 إلى 08 أكتوبر 1908 لدراسة شؤون أفريقيا الشمالية ، وأدرك باش حامبة الفائدة من احتكاك الأفكار بين جماعة الشباب التونسي وممثلي المعمرين وساء قبلت رغبات التونسيين أم رفضت فإن مجرد عرضها يعد حدثا له أهمية كبرى .

  وكانت النخبة الاستعمارية موجودة ضمن الثلاثمائة منخرط ، وإن تمكن الشباب التونسي من إبلاغ صوتهم وبالخصوص فرض أنفسهم في هذا المؤتمر ليعد تتويجا لحركتهم .

وقد بلغوا بذلك أوج إشعاعهم في فرنسا . فبينما لم يظف الجزائريون طيلة 78 سنة من الاستعمار إلا بممثل واحد فإن سبعة من النواب التونسيين قد فرضوا أنفسهم وتناوبوا على المنبر وهم: محمد بلخوجة رئيس قسم حسابات الإدارة العامة للحكومة التونسية المعروف بتبريزه في اللغة العربية ، وخير الله بن مصطفى مترجم محلّف لدى المحكمة العقارية المختلطة بتونس المطلع بصفة خاصة على شؤون التعليم، ومحمد الأصرم مدير الغابة بإدارة الفلاحة بتونس ، والطاهر الأسود مجهّز سفن ببنزرت ، والبشير صفر مدير الأوقاف سابقا و قايد سوسة ولم يمض وقت طويل منذ أن أسندت إليه مسؤولية الساحل مما حال دون مواصلة إلقاء محاضراته بالخلدونية ، وعبد الجليل الزاوش عضو الجمعية الشورية ، والصادق الزمرلي الصحفي الذي كانت مقالاته حول شؤون الشرق والمنشورة بجريدة (التونسي) محل تقدير كبير. ولم تظهر جماعة الشباب التونسي في مظهر الرعايا المتخلفين بل أكدوا اعتزازهم بالانتساب إلى جنس ودين وحضارة لا تقل شأنا من حيث المجد التاريخي والقدرة على الهضم عن أي جنس آخر أو أي دين من الأديان الأخرى أو أي حضارة من حضارات الشعوب القديمة والحديثة ،  وكانت جماعة الشباب التونسي واعية بما أصاب العالم الإسلامي من انحطاط مدركين إمكانيات التجديد فطالبوا بأن يعامل الأهالي كأصدقاء وشركاء لا كمغلوبين ونستشف هذا في خطاب خير الله بن مصطفى نفسه:( هل نكلّف فرنسا الجمهورية فوق طاقتها إذا طالبنا بالحرية والمساواة والأخوة).

   وفي سنة 1909 بالتحديد، أصدر علي باش حامبة نسخة من جريدة التونسي باللغة العربية ترأس تحريرها الشيخ عبد العزيز الثعالبي وبذلك انفصلت الحركة الوطنية ـ بتأثير الثعالبي ـ عن التأثير الثقافي الغربي وأصبح مقر جريدة التونسي هو مقر قيادة الحركة الوطنية.

  كما خاضت الحركة الوطنية معركة أخرى في سنة 1910 بسبب محاولة اليهود التونسيين إكتساب حق النظر في قضاياهم أمام المحاكم الفرنسية وليس أمام المحاكم التونسية، حيث نظرت الحركة الوطنية التونسية إلى هذه المحاولة من جانب المواطنين التونسيين اليهود نظرة سياسية لأنها بداية لحركة تجنيس بعض الفئات الوطنية بالجنسية الفرنسية. وكان ذلك سببا في عقد مؤتمر شعبي لهذا الأمر حيث وجّهت فيه الحركة الوطنية التونسية الدعوة إلى جميع الشِّعَب وخطب فيه قادة الحركة الوطنية وألحوا على التمسك بالجنسية التونسية والتفاني في الدفاع عنها واحتجوا على محاولة تجنيس اليهود التونسيين بالجنسية الفرنسية.

   علما وأن الفرنسيين كانوا قد أصدروا مرسوما يدعى مرسوم ( كريميوCrémieux  ) في 24أكتوبر 1870 يقضي بتجنيس اليهود الجزائريين دفعة واحدة، و عملوا على تطبيق هذا المشروع نفسه في تونس فدفعوا باليهود التونسيين لشن حملة شعواء على السلطات القضائية التونسية ومن جهتها وقفت الصحافة الاستعمارية الفرنسية في تونس إلى جانب اليهود، وكان الهدف هو العمل على تقوية الجالية الفرنسية في تونس والتي كانت قليلة العدد في ذلك الوقت حيث كانت الجالية الإيطالية تفوقها بكثير.

   وقد شعر عرب تونس بخطورة هذا الموقف الذي أصبح يتحدى وجودهم في كل لحظة من خلال إقدام الفرنسيين على تهجير التونسيين العرب وجلب جاليات أجنبية من فرنسيين وإيطاليين ومالطيين وكورسكيين وتوطينها في تونس.

   وأمام هذا الإجراء فقد تصدت الحركة الوطنية التونسية لهذه الخطة التي تقضي بتجنيس اليهود التونسيين دفعة واحدة معتبرة إياها مساسا بالسيادة الوطنية وتزعم حركة المقاومة علي باش حامبة وأحمد الصافي وأدت في النهاية إلى ضد اليهود حيث دعوا الشعب التونسي إلى مقاطعة اليهود اقتصاديا وأدبيا الشيء الذي جعل السلطات الاستعمارية تتراجع عن تطبيق هذا القانون وعن هذه الخطة، واستطاع الشعب العربي التونسي بعد مقاطعته لليهود اقتصاديا أن يتحفز وأن ينشط اقتصاديا وتجاريا مما أدى إلى انبعاث روح الحرص على احتلال مراكز الصدارة في الحركة الاقتصادية للبلاد التي كانت محتكرة من قبل التجار اليهود وكسبت الحركة الوطنية بذلك المعركة وهكذا فإنه كلما كان الاستعمار يخطط وينسج مؤامراته ضد البلاد وجد المجابهة من طرف الشعب التونسي بقيادة ( الأنتلجانسيا ) التي تملك بيدها الثقافة والوعي إلى جانب الحس الوطني.

    وفي عام 1910 قام طلبة جامع الزيتونة بمظاهرات وأضربوا عن الدراسة مطالبين بإصلاح التعليم الزيتوني، ووجدوا مساندة كبيرة من الحركة الوطنية التونسية، وقد بلغت درجة الوعي درجة كبيرة عند طلاب جامع الزيتونة حيث عرّفوا بنضالهم وبكفاحهم المستميت من أجل إحياء الثقافة العربية وبعثها من جديد . فكان لكفاح طلبة الزيتونة فضل كبير على تطور الكفاح الوطني حيث كان جامع الزيتونة ملهما للنضال ومصدر إزعاج للسلطات الاستعمارية.

وبدأت الحركة الوطنية في تونس تسير على منوال الحركات الوطنية في كل من آسيا وإفريقيا خاصة بعد فشل دعاة الارتماء في أحضان الغرب من جراء :

• تعنت الاستعماريين واحتقارهم للتونسيين
• قوة التيار الشعبي المعادي لكل ما هو أجنبي والمتمسك بأهدافه القومية
• اعتداء إيطاليا على طرالبس
• انضمام الشيخ عبد العزيز الثعالبي وبعض الوطنيين الزيتونيين للحركة الوطنية أمثال الشيخ

 صالح الشريف والشيخ الخضر حسين والشيخ إسماعيل الصفايحي.

• أحداث الوطن العربي والعالم الإسلامي التي أحيت الأمل في النفوس خاصـة بعد انتصـار

 الدولة العثمانية عام 1897 ومحاولة السلطان عبد الحميد الثاني إشاعة سلطته الروحية على البلاد الإسلامية ، وكذلك تبني الاتجاه الإصلاحي في حزب الإتحاد والترقي بزعامة أنور باشا لسياسة قومية، وأيضا سياسة الحزب الوطني المصري حيث كانت علاقات شخصية تربط بين قادة الحركة الوطنية في تونس وبين قادة هذا الحزب ، وفي مقدمتهم مصطفى كامل ومحمد فريد على وجه الخصوص ، بالإضافة إلى تأسيس حزب الرابطة الإسلامية في الهند سنة 1907.

و الاحتقار لكل كل هذه العوامل جعلت الكفاح الوطني التونسي يتجه الوجهة القومية. ويعبر عن هذا الاتجاه الجديد الذي لم يكن واضحا في البداية عند الزعيم علي باش حامبة في جريدة التونسي الصادرة بالفرنسية حيث أعلن في مقال افتتاحي بكل صراحة ووضوح عن السير قدما جنبا إلى جنب مع الحركات المناهضة للاستعمار في آسيا وإفريقيا.وقد صمم على السير في هذا الإتجاه الوطني القومي وبدأت جريدة التونسي تشن الحملات على الصحافة الاستعمارية ، وقد بين باش حامبة في جريدة التونسي قائلا : ( أنه ليس من قصد الشباب التونسي قطع صلته بماضيه المجيد ولا بالجماهير الشعبية التي يستمد منها العون والدعم ، ولا يمكن أن نتخذ سياسة تصطدم بالشعور الوطني والقومي الذي نتعاون على خدمته مع الصحافة الوطنية العربية ). وقد هاجم المعمر الفرنسي ( دي كارنييرDe Carnière  ) صاحب جريدة (المعمّر) جريدة التونسي وأسرتها وشهّر بسياستهم الوطنية الإسلامية،  فردّ عليه على باش حامبة بقوله: ( إن كل عربي مسلم أو مسلم غير عربي هو من أنصار وحدة العالم الإسلامي وأن التونسيين قاطبة أنصار ومؤمنون بوحدة العالم الإسلامي ومتعلقون بالرابطة العثمانية التي هي نتيجة تلك الفكرة ومظهرها الباهر ، وإذا كانت ثقافتنا الغربية قد أكسبتنا عقلية جديدة فإننا بصفتنا مسلمين فإننا قد احتفظنا بولائنا الخالص لإخواننا المسلمين في جميع الأقطار ، فالأتراك والمصريون والسوريون يوحون إلينا بهذا الإحساس كما يوحي به إلينا إخواننا في الجزائر والشعوب الآسيوية في الشرق الأقصى).

  ومن هنا يتضح أن الاتجاه الجديد لحركة الشباب التونسي أو حركة تونس الفتاة كما يعبر عنه على باش حامبة وقادة الحركة الآخرون كان يرتكز على العمل كأساس إسلامي مرتبط برمز يتمثل في   الخلافة الإسلامية أو الرابطة العثمانية. وهذا يعد تحولا أساسيا في تفكير حركة الشباب التونسي المثقفة بالفرنسية. وقد أفاد الاستعمار بشكل غير مباشر الحركة الوطنية التونسية بسبب مواقف الازدراء تجاه كل ما هو عربي واسلامي حتى ولو كان يسعى إلى الاندماج في الفرنسة، كل هذا جعل الحركة تعود إلى جذورها الشعبية التي اتخذت في هذا الوقت مظهرا إسلاميا كرد فعل مقاوم للاحتلال الفرنسي الذي أراد أن يعمل على انحلال وتذويب الشخصية الوطنية التونسية ذات المظهر الإسلامي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة السادسة: حادثة الــزلاج 1911.

    قبل التطرق إلى حادثة مقبرة الزلاج الشهيرة يجدر بنا الإشارة إلى الحرب الإيطالية على طرابلس الغرب بليبيا آخر معقل للخلافة العثمانية في بلاد المغرب العربي وذلك للعلاقة الوطيدة بين الحادثتين، حيث كانت إيطاليا تعتبر طرابلس امتدادا طبيعيا لها وعلى هذا الأساس كانت إيطاليا معارضة لإرساليات تركيا إلى طرابلس ولهذه الأسباب شرعت إيطاليا في عملية الاحتلال على شكل احتجاجات.

وفي يوم 11 سبتمبر 1911 أعلنت الحرب واستولت على مدينة طرابلس ويذكر أحمد توفيق المدني بهذا الخصوص في كتابه ( حياة كفاح ، مذكرات ، الجزء ، الأول ) : ( لا أزال أذكر ذلك اليوم الرهيب ، وهو أسوأ يوم في حياتي دون ريب ، وقلبي يلتهب ، ودمي يفور ، وأعصابي توشك أن تتحطم . كانت الدولة العثمانية كما قلت في دور إعادة التنظيم ، ومقاومة الدسائس الأجنبية التي تستعمل مختلف الطوائف المسيحية في البلاد لتقويض بناء السلطة من أساسه ، عندما فوجئت بذلك الحدث الرهيب . ولم تكن ولايتا طرابلس وبرقة في حالة تسمح لهما بالدفاع ، ولم يكن بهما من الجند التركي إلا مالا يكاد يكفي لفظ الأمن الداخلي ، والمواصلات شبه مقطوعة ، فالإنجليز في مصر والفرنسيون بتونس ، يمنعون يمينا وشمالا كل اتصال مباشر مع طرابلس ، والبحر تحت رحمة الأسطول الإيطالي . أما سفير الدولة العثمانية بروما ، أستطيع أن أصفه بالبله والغفلة ، فلم يكن يعلم عن استعداد إيطاليا لغزو طرابلس شيئا . إلى أن وقعت الواقعة . وخرج من روما يجر أذيال الخيبة والفشل).

   و يضيف أحمد توفيق المدني : أن العالم آنذاك اندهش لأمور ثلاثة شاهدها و لم يكد يصدقها و هي:

- الشباب العجيب الغريب الذي أبداه أهل طرابلس و أهل برقة المتمثل في صمودهم أمام العدوان الإيطالي.

-الضعف الكبير الذي امتاز به الجيش الإيطالي إلى درجة أنه أصبح محل سخرية من قبل كل الناس .

- وقوف العالم الإسلامي عامة و العالم العربي خاصة بكل قوة و صلاة كرجل واحد في وجه العدوان الإيطالي، حيث كان لهذا الغزو آثار مدونة في كل العالم  الإسلامي ولاسيما في بلدان المغرب العربي نظرا لما للقطر الكبير من روابط تاريخية و دينية و لغوية و جوارية مع هذه البلدان حيث تعالت الأصوات المنددة و العارضة لهذا الاحتلال من تونس و الجزائر على الخصوص بالرغم من ظروف الاستعمار التي كانت تسود هاذين البلدين .

ففي تونس مثلا أصدر الشباب جريدة "الاتحاد الإسلامي" بمناسبة العدوان الإيطالي على ليبيا .   و من عنوان الجريدة تتضح أهمية التضامن العربي الإسلامي مع السلف الليبي الشقيق الذي كانت تتطلع إليه حركة الشبان في تونس لروع هذا العدوان إذا جاء في العدد الأول لجريدة الاتحاد الإسلامي: فلا يتعجب الأوربيون إذا رأوا قلوب المسلمين تخفق نحو تركيا نتيجة هذا الاعتداء الإجرامي الذي لا نسمح به، و يعتبر هذا الاعتداء على أنه اعتداء على الخليفة الحامي و المدافع عن الأماكن المقدسة، إنه اعتداء على الإسلام و على العالم الإسلامي كله، و نحن التونسيون نعرب عن عدائنا لإيطالي، و نرى هذا السلوك هو بمثابة العمل الوحشي الفريد من نوعه الذي عرفه القرن العشرين، و لا نتردد و لا نخشى من اعتبارنا هذا  الاعتداء بمثابة عمل لصوصي و جبان و وصمة عار في هذه الإنسانية .

لقد كان موقف حركة الشباب التونسي تجاه الاحتلال الإيطالي لليبيا حازما . فالأخبار التي كانت تصل من طرابلس كانت تنتشر بسرعة بين الشباب المسلمين في تونس و أصبحت محل تعليق من مختلف الفئات الاجتماعية مما يؤكد دور الشباب التونسي المؤيد للجهاد ضد الإيطاليين .

   أما جريدة الاتحاد الإسلامي فقد وقفت موقفا صامدا في وجه الدعات الإيطالية في تونس . علما بأنه كان يوجد بتونس في هذه الفترة حوالي 75.000 إيطالي كانوا كلهم يتظاهرون و يرفعون شعارات التأييد و الولاء لحكومتهم الإيطالية في حربها ضد الليبيين  فانتقدت جريدة الإتحاد الإسلامي كل تلك الصحف بما فيها صحافة الحماية الفرنسية التي كانت هي الأخرى تحرف و تزين الحقائق المتعلقة بتطورات الحرب الدائرة بين الإيطاليين و الليبيين وتجدر الإشارة هنا أنه لأول مرة تتوحد الصحافة التونسية على موقف واحد و تقف إلى جانب الليبيين لفضح تواطؤ الدول الأوروبية مع إيطاليا الغازية.

و تقف إلى جانب الليبيين لفضح تواطؤ الدول الأوروبية مع إيطاليا الغازية أما مساعدة الشباب التونسي لإخوانهم الليبيين فتمثلت في ثلاثة أشياء : الاكتتاب، التطوع، الدعاية لنصرة الليبيين، كما عملوا على تنظيم و جمع المساعدات المختلفة و تسليمها للهلال الأحمر التونسي ليقوم بإرسالها إلى الشعب الليبي، كما قاموا بتسجيل المتطوعين الذين سوف ينتقلون إلى جبهة القتال لمساعدة إخوانهم الليبيين، و بالفعل لقد وصلت طلبات كثيرة يرغب أصحابها في التطوع في هذه الحرب، غير أن الموقف المحايد لفرنسا و ربما المتواطئ مع إيطاليا قد أخر تحقيق هذه الرغبة و لم يسمح للمتطوعين الانتقال إلى طرابلس حتى أن المساعدات المالية التي جمعها التونسيون كانت تقدم إلى طرابلس سرا إلى السيد"باش حامية" ليقوم هو بإرسالها بطريقته الخاصة إلى المجاهدين في ليبيا .

 فإذا كانت التبرعات التي كان يجمعها الهلال الأحمر التونسي سرية في البداية فإنها قد أصبحت تجمع علانية بعد موافقة إدارة الحماية بعد إلحاح كبير من قبل الشباب التونسي . و كانت هذه التبرعات تأتي من مناطق مختلفة من القطر التونسي و كانت مهمة جدا فمنطقة أهل الساحل مثلا أعلن أهلها أنهم أرسلوا لعلي ماش حامية تبرعات وصل عددها 400 قيمة (وصل استلام)  و هذا الرقم يعبر عن قوة التبرع رغم قلة السكان أما الأحوال التي جمعت من مختلف الشرائح الاجتماعية فقد استغلت لشراء الأدوية والأغذية للجنود الأتراك و توزيع الباقي على معطوبي الحرب. ومن جهة أخرى فتح الشباب التونسي قوائم للتطوع والالتحاق بالجبهة فتطوع عدد لا بأس به و من هؤلاء نذكر" العربي بن عطار، الشاذلي قوقة ، ابراهيم الشريف  و قد جاء رسائل التطوع حتى من بعض الجزائريين الذين اعتبروا الاحتلال الإيطالي لليبيا بمثابة فصم للصلات الحضارية و قطع للروابط الثقافية مع بلاد المشرق . و أن هذا الاحتلال هو صورة طبق الأصل لما حل بهم على يد الاستعمار الفرنسي، وهو إعادة لمأساتهم القومية.

لقد كانت بحق الحرب الإيطالية الليبية سنة 1911 تجربة صعبة و رائدة في نفس الوقت بالنسبة لحركة الشباب التونسي حيث عبروا من خلالها عن مدى تعلقهم بالجامعة الإسلامية والقومية العربية على حد سواء و لم تكن ثقافتهم الفرنسية  لتحول دون وقوفهم إلى جانب إخوانهم في ليبيا .

لقد زادت الحرب الإيطالية الليبية في شدة الحركة الوطنية التونسية حيث ازدادت عنفا و صارت تونس ممرا سريا لقوات عثمانية في طريقها إلى طرابلس قادمة من أوربا، و بدأ الصراع بين الشعب التونسي  و المستوطنين كما الأوربيين ، كما تعددت حركات الإضراب و الاحتجاج في تونس . و في أواخر نفس العام (1911) و القلق يعم الشعب التونسي والتوتر قائم تحدث حادثة مقبرة الجلاز.  

    و الجلاز هي مقبرة إسلامية في المدخل الجنوبي للعاصمة التونسية بها مكانة خاصة عن التونسيين نظرا لاحتوائها على " جبل التوبة" المعروف " جبل سيدي أبي الحسن" و " مغارة أبي الحسن الشاذلي " الصوفي المشهور صاحب الطريقة الشاذلية الشهيرة منذ أكثر من ستة قرون، و قبور عدد كبير من العلماء و مشاهير الرجال.

    و تعود أصول حادثة مقبرة الجلاز إلى عامي 1884 ، 1885 عندما أعطى الأمر المؤرخ في : 30 جويلية 1884 و قرار أول أفريل 1885 لبلدية تونس الحق في الإشراف و تنظيم مقبرة الجلاز، و هذا يعني انه أصبح للبلدية الحق في تسجيلها و يعني أيضا من الناحية القانونية إدخالها ضمن ممتلكات البلدية بالرغم من كونها أرض حبوس اعتبر التونسيون أن قضية تسجيل المقبرة يعني وضع يد المسيحيين على أرض حبوس إسلامية بواسطة البلدية، و كانوا قد علموا بهذا الأمر عن طريق نشر قرار البلدية في الجريدة الرسمية "الرائد التونسي" في شهر أكتوبر 1911 و عين يوم 07 نوفمبر 1911 يوم التسجيل، فكان لذلك الخبر أثر بليغ على الأهالي المسلمين .

    لقد خلقت هذه الوضعية ضجة كبيرة وسط الجماهير التونسية، من تعاليق شعبية و صحفية، و أصبح موضوع تسجيل المقبرة من طرف البلدية هو الشغل الشاغل للجميع في المقاهي و المساجد و الأماكن العمومية، و استعمل التونسيون لأول مرة المناشير المعارضة لتسجيل المقبرة، و وزعت هذه المناشير على كافة الأحياء و الدور و علقت في المجلات العمومية و الشوارع و غيرها .

و حاولت البلدية من جهتها تبرير هذا الوضع الجديد للمقبرة بأنه يهدف إلى إصلاحها و هو لا يتأتى إلا بتسجيلها ضمن عقارات البلدية .

    و قد أثيرت حول هذه المسالة عدة أقاويل و آراء منها أن البلدية كانت تريد من وراء هذا الضم الحصول على مساحة كافية لمد خط سكة حديد تربط تونس بغار الدماء على الحدود الجزائرية، و هذا المشروع كان في الحقيقة ضمن المشاريع الفرنسية القديمة التي عرضت قبل سنة 1911 و لكنها أجلت من قبل المقيم العام إلى أجل غير محدد في انتظار عقلية الأهالي حسب الزعم الفرنسي، و تغيير نظرتهم تجاه الإدارة الفرنسية و هناك رأي آخر يقول أن القصد من وراء هذه العملية هو إقامة خط للترام واي عن طريق المقبرة بعد أن يتم تسجيلها و هذا استجابة لرغبة المليونير " كلود كارتيني Claude cartini" الشخصية المهابة في المجلس البلدي . أما جريدة "الحاضرة" فقد نشرت في عددها الصادر يوم 31 أكتوبر 1911 تعليقا أدانت فيه هذا الإجراء قائلة : " أن البلدية ليس لها الحق و لا أية مصلحة لوضع يدها على مقبرة الزلاج اللهم إلا إذا كانت تريد تسجيلها بهدف جعلها مكانا عموميا للنزهة أو لبناء عمارات توزعها على المجموعة الأوروبية و هناك رأي آخر يقول أن البلدية أرادت أن تصلح الأرضية المحادية للسكة الحديدية المهددة بالانحراف فتوجهت إلى أرضية المقبرة للاستفادة من الصخور على اعتبار أن أرضها صخرية و أنها تنوي وضع تفجيرات لهذا الغرض . و من خلال هذه الآراء و الأقاويل تخلص إلى أن مكان المقبرة كان فعلا محل اهتمام من قبل سلطات الحماية منذ مدة طويلة، غير أن تخوفات سلطات الاحتلال من ثورة الأهالي المسلمين هي التي أجرت هذه العملية   أما السبب الحقيقي فتكاد تجمع مختلف المصادر و المراجع على أنه يتعلق بمد خط السكة الحديدية لا غير ،أما حيثيات الحادثة فتتمثل في استعداد الجماهير التونسية و في مقدمتهم حركة الشباب التونسي لمواجهة هذا الإجراء فتجمهرت في فجر 07 نوفمبر 1911 في المقبرة و ما حولها، و ازداد الغضب الشعبي تأججا عندما قدم في الصباح رئيس بلدية تونس و مندوب عن الحكومة و مندوب عن المجلس المختلط و مهندسو إدارة المسيح و مساعدوهم و قوة من الشرطة، فصاحت الجماهير في وجههم مرددة و هددته بأنه لن يفلت من قضيتهم إذا لم يطلق سراح إخوانهم، و تظاهرت الشرطة بالاستجابة لمطالبهم حتى تمكنت من إبعاد رئيس البلدية عن الجمهور ثم أطلقوا وابلا من الرصاص على الجماهير المحتشدة فسقط عدد كبير من القتلى و الجرحى و قابل الجمهور الأعزل هذا القمع الأعمى بوسائله الخاصة من عصي   و حجارة و غيرها .  و دارت معركة رهيبة بين الطرفين سقط فيها الشباب تحت طلقات الرصاص و غطت الدماء ساحة المعركة و هتفت الجماهير حينما "بالجهاد في سبيل تحرير الوطنية " و "الويل للمعتدين" و كان هذا إنذار بفشل الشرطة في السيطرة على الموقف و التصدي ليد الجماهير و هي تضرب بكل ما تملك من عصي  و حجارة و خناجر و تطورت المعركة حتى شملت الأجانب و خاصة الإيطاليين منهم . و يذكر أحمد توفيق المدني أن هذا اليوم الرهيب انتهى بموت عدد غير قليل من التونسيين لا يعرف بالتحديد . و عن اثنين أو ثلاثة من الفرنسيين و الإيطاليين و احد أعوان الشرطة يلقون القبض على الناس جزافا و يدعونهم السجن ظلما و عدوانا . ثم وقعت المحاكمة يوم 03 جوان 1912 و ما   بعده. و أسفرت على الحكم بالإعدام على سبعة 7 أشخاص نفذ الحكم على اثنين منهم فقط يوم 26 أكتوبر 1912 و هما الشاذلي القيطاري، و مندوبي الجرجار، أما الخمسة الباقون فبعد عفر من رئيس الجمهورية التونسية خفف الحكم عليهم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة لمدة عشرين سنة.و باقي الأحكام الأخرى تتراوح ما بين 10 سنوات و ثلاثة أشهر سجنا و استفاد الباقي من البراءة .            

و تعتبر حادثة مقبرة الزلاج حسب وجهة نظر أحمد توفيق المدني مكيدة استعمارية أردا الاستعمار الفرنسي من ورائها القضاء على الحركة الوطنية التونسية التي أخذت تظهر للوجود و تترسخ في الأعماق ...ثم يضيف قائلا : " هي التي حضرت الهوة الحقيقية بين التونسيين و الفرنسيين، و هي التي جعلت القلوب تضطرم نارا لا تهدأ.

و واقعة الزلاج هي أول اصطدام عنيف بمدينة تونس بين الجماهير الشعبية و سلطات الحماية.

هذه الأخيرة التي حملت جماعة علي باش حامية مسؤولية هذه الأحداث فعطلت جريدة "التونسي" و أعلنت الأحكام العرفية في البلاد " الحكم العسكري" إلى غاية عام 1922.

و ما يمكن من استخلاص من أحداث مقبرة الزلاج هو أن الجماهير الشعبية هي وحدها قادرة على التصدي للقمع و العنف الاستعماري بقوة دون خوف أو تردد، كما أظهرت أحداث الزلاج مدى تمسك الشعب بدينه و عروشه و استعداده للدفاع عن حقوقه حتى الموت كما أظهرت وحدة الشعب العربي في كل من ليبيا و تونس ضد العدوان الإيطالي و قسوة الاستعمار الفرنسي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 حادثة إلترام واي 1912.

تمثل حادثة مقاطعة التزام واي سنة 1912 امتدادا لحرب طرابلس و حوادث مقبرة الزلاج سنة 1911 و يعود سبب هذه المقاطعة من قبل التونسيين إلى الحادثة التي وقعت يوم 08 فيفري سنة 1912 عندما صدم التزام واي طفلا عمره ثمانية سنوات و هو "أحمد ابراهيم الحربي" بالمكان الواقع بين باب السويقة و باب سعدون .

     و كان سائق إلتزام واي عاملا إيطاليا . ولما كان سائق التزام واي ايطاليا، و صرح الحرب الإيطالية الليبية لم يتدخل بعد بالإضافة إلى سخط التونسيين على شركة التزام واي بسبب سلوكها العنصري البغيض تجاههم بحيث كانت لا تستخدم إلا القلة القليلة منهم و كانوا يلاقون سوء المقابلة من رؤساء مصالحهم زيادة على أجورهم المنخفضة كثيرا مقارنة بأجور العمال الأجانب، و انعدام فرص الترقية بالنسبة لهم.

لهذه الأسباب و غيرها تجمهر عدد كبير من التونسيين و قطعوا الطريق أمام الحافلة القادمة من الجهة الأخرى، و التي كان علي يقودها السائق الذي ارتكب الجريمة، و قد زاد الأمور تعقيدا تجاهل موظفي التزام واي الآخرين خطورة الحادث، و هذا ما زاد في غضب الأهالي ضدهم و إذا كان المتجمهرون قد تفرقوا بسرعة، فإن أهل العاصمة تونس (التونسيون ) أخذوا على هذه الشركة أن تستخدم عمال إيطاليين بدلا من تونسيين و هو ما يعني حبهم أن تفضل الإيطاليين على التونسيين و هذا ما يثير شعورهم  و يخدش مشاعرهم ومن هنا حدثت عملية مقاطعة التونسيين استعمال عربات الترام واي الكهربائي لمدة ثلاثة شهور كاملة.

وبسبب طول هذه المقاطعة أصبحت الشركة مهددة بالإفلاس مما دفع سلطات الحماية إلى التدخل لوضع حد للأزمة مهما تطلب ذلك من أمر . و تعبيرا عن إرادة الشعب اتفق قادة الحركة الوطنية على التدخل لأبناء المقاطعة مقابل مطالب تتعهد الشركة بقبولها و شكلوا لجنة لهذا الغرض ضمت علـي باش حامبـة، محمد نعمـان، أحمد الصافـي، الشاذلـي درغوت، محمد العـروي، ومجمـل مطالبها يتمثل في التالي:

1. طرد العمال الإيطاليين و تعويضهم بتونسيين و فرنسيين .
2. مساواة كل العمال دون تمييز .
3. تخفيض السرعة في الأحياء العربية .
4. استعمال اللغة العربية إلى جانب الفرنسية في كتابة العناوين في المحطات و الإرشادات.
5. التزام عمال الشركة باحترام الركاب من التونسيين .
6. طرد كل من يتسبب في قتل أي إنسان من سائقي الشركة .

   و في الأخير رفضت الشركة مطالب التونسيين، و اكتفى مسؤول شركة الترام واي بتقديم التعازي إلى أهل الضحية . و الموافقة على تخفيض سرعة الترام واي .

الأمر الذي زاد في تذمر الجماهير التونسية و تطورت المطالب من مطالب اقتصادية و اجتماعية إلى مطالب سياسية .

   و في يوم 08 ماي 1912 تظاهر الناس أمام مقر إدارة سلطة الحماية و طالبوا بإطلاق سراح الموقوفين في حوادث مقبرة الزلاج و ازداد غضب السكان المسلمين حتى على إدارة الباي نفسه.

و لما باءت كل المحاولات بالفشل ولم يتم إيجاد حل يرضى الطرفين صبت سلطة الحماية جام غضبها على زعماء الحركة الوطنية و حملتهم مسؤولية المقاطعة. و تم إعتقال و إبعاد علي باش حامية، و عبد العزيز الثعالبي، و الشاذلي درغوت و محمد الغروي و محمد نعمان، و المختار كاهية . ونفي علي باشة حامية إلى تركيا أما عبد العزيز الثعالبي فنفي إلى الجزائر و منها إلى مصر.

   و هكذا تم حل اللجنة التي شكلت لأجل حل مشكلة المقاطعة. و منعت جريدة التونسي من الصدور،  فتيقن حينها العديد من الشباب التونسي من بطلان سياسة التشريك التي ما انفكوا ينادون بها. وقد ساهم هذا الوضع في إدخال الحركة الوطنية التونسية في حالة ركود تام طيلة الحرب العالمية الأولى.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة السابعة: الوضع السياسي في تونس نهاية الحرب العالمية الأولى.

في أعقاب الحرب العالمية الأولى و في ظل غياب أبرز قادة حركة الشباب التونسي أخذ الشبان التونسيون بالداخل على عاتقهم مهمة إعادة بناء الحركة الوطنية التونسية و تنظيمها . لاسيما وأن هؤلاء الشباب لم ينحازوا طيلة هذه الحرب إلى أي طرف من الأطراف . بل اتخذوا لنفسهم موقفا حذرا تمثل في ضرورة انتظار نهاية القتال للاستفادة من النصر مهما كان المحرز عليه ، وفي نفس الوقت لم يغيبوا عن الساحة السياسية التونسية، بل استمروا يتلاقون في ناديهم بنهج الكوميسون، و يتناقشون في مصير بلادهم على ضوء تطور الظروف السياسية على الساحة الدولية.

وعند انتهاء الحرب العالمية الأولى تخلوا عن موقف التحفظ ليعطوا الحركة الوطنية التونسية دفعا جديدا و شرعوا في التحضير لتأسيس حزب وطني تونسي .

  و كان أهم اجتماع هو ذلك الذي تم في شهر مارس 1919 في صالون مقهى فرنسا سابقا برئاسة خير الله بن مصطفى و هو آخر كبار" جريدة التونسي" ، وكان الغرض من ذلك حسب الشاذلي خير الله هو وضع برنامج أنشطة يستعيد مطالب "جريدة التونسي" مع تكييفها مع الظروف الجديدة الناجمة عن الحرب، و قد انقسم المشاركون خلال المناقشات إلى نزعتين متباينتين بوضوح، الأولى تزعمها عبد العزيز الثعالبي، و قد طالبت بوضع دستور للبلاد و بدأت عزمها على استعمال كل أشكال الدعاية بالبلاد التونسية و خارجها لتغيير نظام الحماية مهما كان الثمن، و الوصول يوما من الأيام إلى تحرير البلاد ."

و الثانية تتشكل من تونسيين بمعية ثلاثين يهوديا، لم تكن تريد الارتماء في أية مغامرة، بل كانت رؤيتها تقتصر على "تعديل الحماية عن طريق المطالبة بإصلاحات لا غير " و لما كان كل طرف متمسك بموقفه، فقد تقرر عقد اجتماع آخر لإيجاد حل توفيقي، و لكن في التاريخ المحدد تغيب اليهود الثلاثون. فضم إذن الاجتماع الثاني أنصار النزعة الأولى فقط (أنصار التيار المتصلب) و قرروا تأسيس الحزب التونسي.

   و كانت هذه التشكيلة الجديدة التي تأسست في ربيع 1919 تضم إلى جانب عبد العزيز الثعالبي      وأحمد الصافي و حسن قلاتي زيادة على قدماء أنصار علي باش حامبه . هذه الوجوه الجديدة ضمت  المحامين و الصحافيين و الأطباء و حتى من أفراد العائلة المالكة و بهذا صار الحزب نخبويا لا يختلف كثيرا عند تأسيس حركة الشباب التونسي ثم واصلوا مساعيهم بهدف تحقيق مطالبهم مستغلين في ذلك مستجدات الساحتين الوطنية و الدولية .

• نشاط الوفد التونسي في باريس:

   في شهر مارس 1919 أرسل قادة الحركة الوطنية التونسية مذكرة إلى الرئيس الأمريكي وودروا ويلسون وبعثوا بوفد إلى مؤتمر الصلح بباريس يطالبون من خلاله بإعادة النظر في الحريات المفقودة، مع التذكير بالوضع السياسي والاجتماعي المزري الناجم عن الاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية . 

   إلا أن الرئيس الأمريكي الذي وضع في نهاية الأمر مصالح القوى الحليفة فوق مبادئه اعتبر المسألة التونسية من قضايا فرنسا الداخلية، كما اعترضت الحكومة التونسية على أية مشاركة تونسية في مؤتمر الصلح . وأمام هذا الوضع غير الحزب إستراتيجية نشاطه وعمل على استعطاف اليسار الفرنسي لتحقيق مطالبه في ظل نظام عصبة الأمم عن طريق موفدي الحزب أحمد السقا و عبد العزيز الثعالبي، و كان يعول كثيرا على أحمد السقا نظرا لثقافة هذا الأخير الفرنسية العالمية خاصة  فيم مجال القانون،         ومعرفته الجيدة بالساحة الباريسية وعلاقته الواسعة بالصحف و حركات اليسار بفرنسا، و هكـذا كانت الظروف مهيأة جـدا حيث التحق بـه في جويليـة 1919 عبد العزيز الثعالبي بباريس، فاستطاع وفدا الحزب أن يكسبا للقضية التونسية متعاطفين جدد لاسيما في أوساط اليسار الفرنسي إلى درجة أن الحزب    الاشتراكي الفرنسي اعتزم النظر في القضية التونسية و عرضها على مجلس النواب . غير أن كتاب "تونس الشهيدة" وهو مؤلف صدر في مطلع عام 1920 عثر عليه الثعالبي في باريس في شكل مجموعة وثائق باللغة الفرنسية نظمه ثم ترجمه أحمد السقا.و تكمن أهمية كتاب "تونس الشهيدة" في تحليله لنظام الحماية و طرحه للمطالب التونسية بكل وجاهة . فهو يسجل بلهجة شديدة صورة قائمة عن الحالة الناجمة عن الاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية، و يندد بدون تحفظ باستعمار الأراضي و تدهور الصناعات المحلية و سياسة التمييز في ميدان الجباية و التقليم و الأجور و القرض إلخ... و بإقصاء التونسيين بما فيهم حاملي الشهادات عن المسؤوليات الإدارية و خرق الحريات العامة و حقوق الإنسان . وبصفة عامة باستغلال السكان التونسيين و استبعادهم.

• فشل الوفد وتداعيات ذلك على مسار الحركة الوطنية التونسية:

ورغم النشاط المكثف للوفد التونسي في باريس الذي استطاع أن يحقق بعض النجاح في التعريف بالقضية التونسية لدى العديد من الجمعيات و الصحف وأن يكسب بعض التأييد من عدة قوى . إلا أن فشل الحزب الاشتراكي الفرنسي في انتخابات أكتوبر 1919 و الذي كان يعول عليه كثيرا في دعم القضية التونسية و تحقيق مطالب النخبة التونسية و خاصة مطلب الاستقلال، قد كان بمثابة الضربة القاصمة لأمال النخبة التونسية. بل تسبب هذا الوضع الجديد في تفجير الخلاف بين أعضاء الحركة الوطنية بين مؤيد للحماية و رافض لها فظهرت أربعة اتجاهات، الأول ثوري يدعو إلى الاستقلال الكامل ومعاداة الفرنسيين صراحة. و يمثله محمد باش حامبه. والثاني اتجاه إصلاحي ينادي بالمساواة بين الفرنسيين    والتونسيين و تحقيق حكم ذاتي في إطار الجمهورية الفرنسية و يمثله حسن قلاتي، و الثالث اتجاه معتدل يسعى للنهوض بالتونسيين في إطار سلطة الحماية و يمثله فرحات بن عياد ، و علي كاهية و الشاذلي القسطلي، و الرابع واقعي مرن، و يمثله الثعالبي، و الرياضي و ابن يحي، و قد استغل أصحاب هذا الاتجاه ظروف نهاية الحرب فطالبوا بالاستقلال ثم عدلوا عن هذه السياسة لما رأوا عدم جدواها وسلكوا بدلا من ذلك منهج الإصلاح. 

لم يكن الحزب التونسي الذي تأسس في ربيع 1919 كما أسلفنا حركة قوية من حيث الهيكلة بل كان مجرد تجمع جهوي واصل نشاطه تحت اسم حركة الشباب التونسي لما قبل الحرب. و لكن أمام تزايد الإقبال و تكاثر الإنخراطات صار حركة منظمة و قوية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثامنة : تأسيس الحزب الحر التونسي ونشاطاته:

    أمام تبخر كل الآمال أدرك الثعالبي أن على الحركة الوطنية التونسية أن تعول أولا و قبل كل شيء على ضغط الجماهير الشعبية ، و كان هذا هو القصد من الرسالة التي بعث بها إلى أصحابه بتونس في فيفري سنة 1920، حيث نبه فيها إلى إفلاس مبادئ ويلسون و كل ما أثار من آمال، و أضاف أنه لا يتسنى للشعوب كسب حقوقها إلا بمجهوداتها  و نضالها و أنه لابد من الاستعداد لخوض معركة طويلة و شديدة ، كما ذكر بأنه لا يمكن في الظروف الحالية المطالبة بإلغاء الحماية بل ينبغي الاكتفاء بالمطالبة بدستور يمكن التونسيين من افتكاك مطالب شؤون بلادهم باستثناء السياسة الخارجية التي تعود بالنظر إلى الحكومة الفرنسية وفقا لمعاهدة باردو و يستخلص من كلامه انه على الحزب أن يُنظم على أسس جديدة و أن يحتوي كل الفئات الاجتماعية و أن يدعى من الآن الحزب الحر الدستوري .و كانت هذه الرسالة قد دعمت مشاركة عبد العزيز الثعالبي في تأسيس تشكيلة سياسية جديدة ظلت تشغل بال الشباب التونسي و فعلا فقد نظم هؤلاء في شهر فيفري 1920 بتونس في منازل خاصة اجتماعات عديدة قصد إعداد برنامج مشترك و تأسيس حزب سياسي على هذا الأساس يجمع كل المواطنين التونسيين . و انتهى الأمر بعد نقاش حاد بين دعاة المساواة بين التونسيين والفرنسيين و دعاة الاستقلال إلى الاتفاق على مشروع مستوحى من مطالب كتاب "تونس الشهيدة" وأرسل هذا المشروع إلى الثعالبي  بتاريخ 07 مارس 1920   وهذا الأخير أعاده في 18 من نفس الشهر بعد النظر فيه و تنقيحه، و هكذا أسس هذا الحزب الذي عرف في أول الأمر باسم الحزب الحر التونسي لكنه لم يلبث أن اتخذ بإيعاز من الثعالبي اسما أنسب لبرنامجه  و هو الحزب الحر الدستوري التونسي و يطلق عليه عادة اسم حزب " الدستور" و هو الحزب الذي سيكون له دور كبير في العشرينيات من القرن العشرين و يذكر الباحث يوسف مناصرية أن أول اجتماع لتأسيس الحزب الحر الدستوري كان يوم 14 مارس 1920 بتونس والذي اتفق فيه المجتمعون على الغاية التي يهدف إليها الحزب و هي الاستقلال، بينما المطالب التي يفتتح بها الحزب الدستوري نشاطه ويقدمها إلى كل من من الباي و المقيم العام هي مطالب مرحلية فقط. وسيعمل الحزب على العيش التشبث بها ريثما يتشكل شبه رأي عام من التونسيين، ويلتزم المنخرطون في الحزب على نشر أفكاره و السعي لإقناع الشعب التونسي للانخراط  فيه وحثهم على إمضاء العرائض. وكانت قيادة الحزب قد حددت أهدافها البعيدة وهي الاستقلال والقريبة وهي تحقيق مطالب محلية ومن ثم وجدت الحركة الوطنية التونسية نفسها تمر بمراحل و محطات لا تحد عليها رغم النشاط المكثف الذي قام به رجال الحزب الحر الدستوري التونسي لتمكين هياكل الحزب و التعريف بمطالبه عن طريق الخطب و المحاضرات أو بواسطة المقالات المنشورة في الصحف، و قد حظيت الحركة الدستورية من أول وهلة بتأييد كافة الفئات الاجتماعية و مساندة الأمير محمد الناصر باي و أفراد عائلته و حاشيته و في مقدمتهم إبنه محمد المنصف باي. و لكن لم تمض مدة طويلة حتى ظهرت خلافات بين الشق الملتف حول الثعالبي و المتمسك بالمطالب الواردة في كتاب "تونس الشهيدة" و الشق المعتدل الذي يتزعمه حسن قلاتي  الذي يدعو إلى قبول الإصلاحات الهزيلة التي أعلنها المقيم العام "لوسيان سان".   وانتهى الأمر بانفصال الشق المعتدل عن الحزب الدستوري في آخر سنة 1921 و تكوين "الحزب الإصلاحي" الذي لم يستطع استقطاب الجماهير الشعبية، و سرعان ما أصبح حرا بلا روح وبقي على هذا الحال حتى انحل من تلقاء نفسه عام 1928 . و المحطة الثانية تمثلت في أزمة أفريل 1922 . و فيها تعزز جانب الحزب الدستوري بتأييد الناصر باي له الذي لم يتردد في إعلام المقيم العام بتبنيه للمطالب الوطنية مهددا بالتنازل عن العرش في حالة عدم استجابة الحكومة لتلك المطالب، فتدخل المقيم العام لوسيان سان بكل ثقله لإرغام الباي على التراجع عن قراره مستعملا الترغيب و الترهيب، و خاصة بعد المظاهرة الشعبية العظيمة التي نظمها الحزب بالمرسى يوم 05 أفريل 1922 .و لكن بعد ذلك بقليل توفي الناصر باي يوم 10 جويلية 1922 و خلف الحبيب باي الذي بادر إلى الإعراب عن ولائه للحكومة الفرنسية، فأغتنم المقيم العام هذه الفرصة و أصدر مجموعة من الأوامر القمعية و المناهضة للحركة الوطنية . منها الأمر المؤرخ في 20 ديسمبر 1923 و القاضي بمنح الجنسية الفرنسية للراغبين فيها من الموطنين التونسيين، و قد اضطر في هذه الفترة الشيخ عبد العزيز الثعالبي زعيم الحزب الدستوري مغادرة البلاد التونسية و ذلك منذ 26 جويلية 1923، فركدت بذلك الحركة الوطنية التونسية و لم يصمد أمام سياسة القمع إلا عدد قليل من المواطنين الأحرار. أما المحطة الثالثة فتمثلت في حركة محمد على الحامي " القابسي" الذي سعى إثر رجوعه من الخارج إلى بث روح الحماس الوطني عام 1924 في الطبقة الشغيلة فحثها على روح النضال من أجل الدفاع عن حقوقها المهضومة، و قد تمكن من حمل الشاغلين التونسيين على الانفصال عن المنظمة النقابية الفرنسية “C.G.T " و إنشاء منظمة نقابية وطنية تحمل اسم

 "جامعة عموم العملة التونسية" فاغتنمت السلطة الاستعمارية الإضرابات التي نظمتها هذه الجامعة لإلقاء القبض على قادتها و في مقدمتهم الزعيم النقابي علي الحامي وأحالته على المحكمة الفرنسية التي حكمت عليه بالنفي بتهمة " المس بأمن الدولة و نشر التفرقة بين الأجناس".

   فخلا الجو للمقيم الفرنسي لتطبيق سياسته القمعية و إصدار مجموعة من الأوامر في سنة 1926 لتشديد الجناية الضخامة الوطنية و منع الاجتماعات العامة و التظاهر في الشوارع فاكتتب " الأمن الفرنسي" و أصبح الحزب الدستوري في حاجة إلى إعادة النظر في أسلوب عماه في انتظار ظهور زعماء شبان قادرين على بعث الحركة الوطنية من جديد لأن نشاط الحزب الدستوري كان قد عرف تراجعا كبيرا إثر إصدار الأوامر الجائرة فأصبح قادة الحزب الشروع في أي عمل حتى لا يتسبب نشاطهم في أي مبرر للسلطة التي تبحث على أدنى سبب كي تلحق بهم العذاب الشديد .

فقد التزم الأمين العام للحزب أحمد العياضي بتحفظ حذر إلى حد جعل الناس تروج الإشاعات بأن الأمين العام تخلى عن الحركة و كان مساعده صالح فرحات يبدو رغم رغبته في المحافظة على بعض النشاط للحزب الدستوري شديد الحرص على تجنب أية هفوة، أما محي الدين القليبي وهو من قدماء طلبة الزيتونة و مؤيد متحمس للثعالبي، فقد كان يواصل الدعاية لفائدة حزب الدستور. غير أن نفوذه لم يكن مؤثرا في الأوساط البرجوازية. ومن جهتها غيرت الصحافة الدستورية من لهجتها بعد إصدار الأوامر الجائرة.

و إن لم تزل تبدي انتقادات و مطالب لكن بأسلوب أكثر لباقة و احتراز، و باستثناء صحيفتي " لسان الشعب" و "النديم" اللتين لم تزالا تبديان شيئا من الحدة فقد كانت بقية الصحف العربية ترضي سلطـات الحمايـة تمـام الرضى .

    و كانت صحيفة "الوزير تعرب عن ثقتها بالحكومة الحامية و تستنكر المطامع الإيطالية في البلاد التونسية.  و تذهب صحيفة " الزهرة" و هي صحيفة أخرى ناطقة بالعربية أبعد من ذلك و تعلن عن مثل هذه الثقة في عبارات سامية ففي 08 فيفري عام 1926، بمناسبة زيارة المقيم العام لصفاقس تحدثت عن فرحة الصفاقسيين برؤية لوسيان سان بمدينتهم، و 22 من نفس الشهر شكرت المقيم العام على تبرعه أثناء جولة في الجنوب التونسي بهبات لترميم بعض المسجد و بناء أخرى و في 05 أفريل الموالي أثنت على الحكومة لموقفها من مسألة مراجعة القانون الأساسي للموظفين و مرتباتهم .

    أما صحيفة "النهضة " لسان حال حزب الإصلاح فإنها اغتنمت كل المناسبات للتعليق بمرارة على قرار الحكومة . فإنها كانت تتجنب بكل دقة العبارات العنيفة التي لم تكن في الماضي القريب تتحاشى استعمالها.

    و هذا ما يقرر ثقة المقيم العام بنفسه عندما ذكر في 22 ماي 1926 في تقرير إلى وزارة الخارجية " أن نشاط الوطنيين التونسيين في فتور، و أن الجمهور لم يعد يتبعهم و أن الموارد قلت و أن الحماس انطفأ " و يرى لوسيان سان : " الأهالي في هدوء . و هم يخضعون للقانون باستثناء بعض المتحمسين الذين أضحى عددهم في تناقص مطرد و خطورتهم في تراجع ".

    و في الواقع فإن الحزب الدستوري و إن تخلى عن كل عمل واسع المدى انتظارا لفرص أكثر ملاءمة فإنه لم يضمحل و لم يختف تماما من الساحة السياسية . و إن كان عاجزا في هذه الفترة عن القيام بنضال خاضع لتحقيق فوري لمطالبه . فإنه قد تبنى خطة جديدة تقوم على تهيئة المجال للمعارك المقبلة

    فسكت مرحليا عن برنامجه السياسي ليضع المطالب الفلاحية و المدرسية  في المقدمة معتبرا بأن  التقدم السياسي مرتبط ارتباطا وثيقا بتطور هذين الجانبين . و تجلى الاهتمام بهذين الجانبين في الاجتماع الذي عقد الحزب في مقره المركزي بتونس في شهر ديسمبر 1926 حيث احتلت قضية الفلاحة و التعليم مكانة متميزة في هذا الاجتماع .

    و كان الحزب الدستوري يحرص على أن لا تنطفئ الشعلة الوطنية تماما بالبلاد التونسية لذلك لم يفته استغلال بعض الظروف و المناسبات لإحياء هذه الشعلة.

    من ذلك فإن "مؤتمر المناهضة للاضطهاد الاستعماري و الإمبريالية " المنعقد في بروكسل من  10 إلى 14 فيفري 1927 و الجامع لعديد الوفود الآتية لتمثيل البلدان المستعمرة . و كذلك لمنظمات أوربية مناهضة للاستعمار . قد وفر للدستور المناسبة المواتية لإعادة الثقة إلى السكان التونسيين الذين بقوا تحت سلطة القمع الذي سلط عليهم منذ عام 1925 بالخصوص .

    و من شأن هذا المؤتمر أن يقيم الدليل على أن الحركة الوطنية التونسية لم تكن منعزلة و أنها تندرج ضمن تيار واسع معارض للإمبريالية، و أنها تتمتع بتضامن دولي، و بالتالي رفع المعنويات  و الإسهام في تحريك إحساس الأهالي التونسيين . و من هذا المنطلق فقد أولى قادة الحزب الدستوري أهمية كبرى لهذا المؤتمر من خلال رسالة الأمين العام للحزب أحمد الصافي التي بعث بها إلى منظمي المؤتمر معربا فيها عن الاهتمام الذي يوليه حزبه إلى هذه التظاهرة المناهضة للاطظهاد الاستعماري.

    و من ناحية أخرى فمن الشكاوى التونسية قد تولى عرضها في المؤتمر الشاذلي خير الله مندوب الحزب الدستوري بباريس و رئيس جمعية نجم شمال إفريقيا !  كما طبعت الفترات الأساسية للخطاب الذي ألقاه أما المؤتمر في شكل من شير و تم إدخالها إلى البلاد التونسية . أما أعمال المؤتمر فقد وصلت إلى التونسيين من خلال جريدة " الأقدام الشمال إفريقي " عدد ماي 1927.

    و رغم حظر هذه الجريدة بالبلاد التونسية بقرار من الوزير الأكبر بتاريخ 28 مارس 1927 فقد حظي العدد المتعلق بمؤتمر بروكسل بانتشار واسع في تونس حيث أرسل من باريس في طرود إلى الدستوريين المعروفين، و بذل الدستوريون كل جهودهم لتوزيع هذا العدد على أوسع نطاق في مختلف أنحاء البلاد.

   و كان مؤتمر بروكسل قد بعث الحياة من جديد في الدعاية الدستورية الخاملة منذ مدة إذ تشجع الحزب بما لقيته هذه التظاهرة من صدى لدى السكان التونسيين. و في أوائل شهر جوان 1927 كلف الحزب اثنين من أشهر مناضليه وهما : الشاذلي خزندرا، و زين العابدين السنوسي، للقيام بجولة داخل البلاد لإلقاء محاضرات أدبية لإيقاظ الجماهير الشعبية و تعبئتها. و لكن لو كان الوضع الاجتماعي        و الاقتصادي متفجرا في هذه الفترة لأمكن لتظاهرة بروكسل أن تكون بمثابة الفتيل و أن تترتب عنها تعبئة كبيرة للسكان التونسيين، غير أن الظروف الداخلية إذ ذاك كانت أبعد ما تكون عن التفجر، لأنه منذ صيف 1926 تحسنت كثيرا الحالة الاقتصادية و الاجتماعية بالبلاد. و من هنا يمكننا القول بأن التحسن المسجل في الوضع الاقتصادي و الاجتماعي بالبلاد هو الذي يفسر ركود الحركة الوطنية التونسية في الفترة ما بين 1925 و 1930، و كـان أثر هذا العامل ربما أكثر مـن الأوامـر الجائـرة نفسه !.

   بعد فترة جمود الحركة الوطنية التونسية 1925-1930 بسبب سياسة القمع و الاضطهاد الاستعماري، أفلت زمام قيادة الشعب من أيدي الجماعة الذين كانوا على راس الحزب، و تقلدته جماعة من الشباب المثقف بعد عودتهم من فرنسا، و قد ظهروا في الميدان الوطني بحركية جديدة في الأسلوب والنهج.    وقد التف هؤلاء مع بقية الشباب التونسي المثقف حول جريدة "صوت التونسي" التي أصدرها الأستاذ الشاذلي خير الله بعد أن أوقفت السلطة الفرنسية جريدة"اللواء التونسي" و ساعد تصرفات السلطة الفرنسية نفسها على انتعاش النشاط الوطني و بعثه في ثوب جديد، و في هذه الأثناء حدثت في تونس حادثتان كبيرتان و كان لهما أكبر الأثر في استعادة الوعي الوطني من جديد، و يرجع إليهما الفضل الأكبر في استئناف الشعب التونسي لكفاحه السياسي الذي لم يتوان فيه منذ ذلك الحين إلى غاية تحقيق الاستقلال التام.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة التاسعة: برنامج الحـزب الدستوري التونسي.

 

        لقد كانت أهداف الحزب الحر الدستوري التونسي البعيدة ترمي إلى تخليص البلاد التونسية من نير الاستعباد و رفع الشعب إلى مستوى الشعوب الحرة الأخرى، فيتمتع بحقوقه و حرياته مثلها. و بناء على ذلك فقد عمل في اتجاه هذه الغاية بجميع الوسائل النافعة له، و اجتهد في وضع دستور يضمن للشعب التونسي حكمه الذاتي و يسير شؤونه بنفسه طبقا لمبادئ العدل المتبعة من الشعوب المتمدنة.

    و قد فصل المؤتمرون معاني و مرامي الحزب البعيدة. فالتزموا –في برنامجه- بفصل السلطة التشريعية و التنفيذية و القضائية، و ضمان الحريات الشخصية في المسكن و الاجتماع،والملكية، و القول،و الكتابة، و النشر،و جعل منها مقدسة لجميع سكان المملكة التونسية. و كان يؤمن بأنها مستلزمات النجاح و ازدهار البلاد، ثم قال أخيرا بضمان بقاء السلطة وراثية في الأسرة الحسينية المالكة و تعهد بالإخلاص لها. و قد جاءت هذه الأهداف (البعيدة) مفصلة على النحو التالي :   

        1- الحكومة :

    تتألف الحكومة في حكم الدستور من الوزراء الذين يختارهم من يعينه الأمير لتأليف الوزارة،            و تولى رئاستها. و تكون الوزارة مسؤولة أمام مجلس الأمة التونسي. و يجب لبقائها في الحكم أن تتمتع بقة الأغلبية. و لهذه الوزارة الحق في تكليف المقيم العام الفرنسي بتونس بإدارة السياسة الخارجية تحت مسؤوليتها، و ذلك ريثما تتمكن الحكومة التونسية من تسيير شؤونها الخارجية بنفسها مباشرة بواسطة مكلفين بشؤونها الخارجية.

2- مجلس الأمة التونسي :

   يتكون مجلس الأمة التونسي من أعضاء ، ينتخبهم التونسيون خاصة. و نظرا للحالة الراهنة يمكن للجاليات الأجنبية أن تنيب عهنا ممثلين لا يمكن أن يتجاوز عددهم ثلث مجموع أعضاء المجلس، و ذلك رغما عن عدم أي حق شرعي يسمح للأجانب بالمشاركة في العمل التشريعي مع التونسيين. و هذه الحالة مرهونة بتمكن الأجانب من الامتثال للقوانين التونسية.

    و فيما يخص الحقوق المدنية فإن كل تونسي له من العمر واحد و عشرون سنة له الحق في انتحاب الأعضاء التونسيين بمجلس الأمة. أما انتخاب الأعضاء الأوربيين فيجري على مقتضيات خاصة تصدرها الحكومة بالاتفاق مع المقيم العام و يصادق عليها مجلس الأمة.

    كما تأسست مجالس عامة في مراكز الولايات (القائدات) تكون وظيفتها مشاركة رئيس المجلس (القائد) في إدارة الولاية. و ينتخب أعضاؤها بالاقتراع العام، كبقية المجالس الانتخابية الأخرى. كما يجب أيضا أن تؤسس حجرات تونسية بحتة للفلاحة و التجارة في جميع المدن الكبرى التونسية. وينتخب أعضاءها الفلاحون و التجار التونسيون. و تخصص مداخيل الميزانية التونسية لمصاريف المصالح العامة التونسية و الجيش الوطني التونسي الذي يجب أن يتجاوز عدده ما يلزم لحفظ استقرار البلاد و أمنها. و لا يمكن استعماله بأي صورة لمحاربة شعوب تدين بالدين الإسلامي، دين الشعب، إذ هو اعتداء فظيع على دين البلاد الرسمي و دين جيشها.

    وإذا كان هذا البرنامج (ذوا لمدى البعيد) الذي هو الوجه الحقيقي للحزب الدستوري، يهدف أساسا إلى الاستقلال التام و تكوين نظام تونسي حر فإن البرنامج السياسي الذي واجه به حكومة الباي و الإقامة

العامة معا، ما هو إلا تمهيدا لتحقيق الأهداف البعيدة للحزب. و قد تضمنت مطالبه أساسا ثماني نقاط، ثم أصبحت تسعا بإضافة مطلب التعليم الإجباري. و هي كالتالي :

1. تأسيس مجلس استشاري، يتكون من أعضاء تونسيين و فرنسيين منتخبين بالاقتراع العام، له السيادة الكاملة في وضع برنامج أعماله، و له اختصاصات واسعة فيما يخص الميزانية.

2. تأسيس حكومة مسؤولة أمام هذا المجلس.

3. الفصل بين السلطات التشريعية، و التنفيذية، و القضائية.

4. دخول التونسيين في جميع الوظائف الإدارية بشرط أن تتوفر فيهم الضمانات الثقافية              و الأخلاقية المتوفرة في المترشحين الفرنسيين.

5. المساواة في أجور الموظفين ذوي القدرات المتساوية في الوظائف المتشابهة دون تمييز لصالح الأوربيين على حساب التونسيين.

6. تنظيم بلديات منتخبة بالاقتراع العام في جميع أنحاء المملكة.

7. حرية الصحافة، و الاجتماع، و تأسيس الجمعيات.

8. مشاركة التونسيين في شراء أسهم الأراضي الزراعية و أملاك الدولة.

               وقد أراد الحزب الدستوري بالمطلب الأول إلغاء سلطة المقيم العام الفرنسي من جهة      وإبعاد نفوذ الفرنسيين التشريعي و التنفيذي و المالي من جهة أخرى. إذ أن المقيم العام كان هو رئيس (المؤتمر الاستشاري) يقدم له مقرراته و تشريعاته، و تعديلاته على الميزانية، و المؤتمر يصادق عيها دون مناقشتها، لأنها بطبيعة الحال كانت كلها في صالح الفرنسيين. و كان هذا المؤتمر يتألف من فرنسيين و تونسيين، الثلثان منتخبان من الأوائل، و الثلث الباقي يعينه المقيم من التونسيين. ويتم اختياره من بين المناوئين لسياسة الحماية، و مع ذلك فالمقيم لا يستشيرهم في شيء.

   وذكر السيد ابن الحاج عثمان الشريف في كتابه (أضواء على تاريخ تونس) إن المبدأ الأول من برنامج الحزب هذا، كان يهدف إلى الازدواجية في التمثيل النيابي. من ذلك أنه كان يطالب بنصف عدد نواب المجلس. و قد اعتمد في هذا الرأي على ما جاء في كتاب الحبيب بورقيبة (مدخل إلى تاريخ الحركة القومية، ص 40 و الحقيقة أن القائل بهذا المفهوم هم الاشتراكيون الفرنسيون الذين أصدروه في جريدة (الزمن) الفرنسية في 20 فيفري 1921 فهو رأي خاطئ من أساسه، توضحه النقطة الأولى نفسها من البرنامج.

فالمطلب الأول إذن كان يهدف إلى إحداث مجلس شوري تسود فيه الأغلبية فتملك السلطة التشريعية بيدها، و يبقى المقيم العام من أعضاء السلطة المسؤولة أمام المجلس،و هي السلطة التنفيذية. و أعلى مسؤولية يمكن أن تسند إليه هي: وزير، إذ يستحيل عليها أن يصبح بايا و لا رئيسا للوزراء. فلا يصلح له إلا منصب وزير الشؤون الخارجية. و هذا ما تنص عليه روح معاهدة باردو و ما يريده أصحاب الدستور.

    و رغم ما في النقطة الرابعة من البرنامج منافع للتونسيين في فتح أبواب التوظف أمامهم، فإن شرطي الكفاءة الثقافية و الأخلاقية قد يحولان بينهم و بين بلوغ هذا الهدف. و ذلك أنه لم تكن لأغلبيتهم ثقافة عالية مثلما هي لدى الفرنسيين، باستثناء الأقلية المحظوظة. فلا يمكن إذن أن يقوم على رأس هذه الوظائف إلا العارفين بأمورها و أساليبها ولغتها، و هم الفرنسيون و الأقلية التونسية. و تبقى الأكثرية من هؤلاء في المناصب الثانوية.

    أما شرط الأخلاق فقد طرح أساسا لإبعاد عمليات الرشوة و المحسوبية و الربا و غيرها، التي كان يتعاطاها الفرنسيون و غيرهم من الأوربيين و اليهود، و حتى بعض التونسيين، ممن كانت بيدهم بعض المناصب الإدارية. و لعل الدستوريين قد أرادوا إظهار مرونتهم و رغبتهم في الإصلاح العادل ؟ ولكن كان عليهم أن يشترطوا العدالة في التوظيف، و المساواة في المعاملة، دون اشتراط الثقافة و الأخلاق، لكيلا تستعمله فرنسا ضدهم.

    و لعل أعضاء الحزب هنا قد سادتهم فكرة النخبة المثقفة ثقافة أوربية، و يستبعد أن تكون من أفكار ذوي الثقافة الإسلامية، لأنه كان عليهم أولا المطالبة بتعريب الإدارة و إرجاعها إلى أصلها حتى تتمكن أغلبية السكان من الاستفادة من هذا المطلب. و لعل قائلا يقول إنهم كانوا ينتظرون من المجلس الاستشاري (حين تعيينه) المطالبة بذلك؟ و لكن هذا المطلب عاجل، فهو من نقاط برنامج المدى القريب، و لا يقبل التأجيل! . و كانت البنود الأخرى كلها في صالح التونسيين إذ تنص على إلغاء القيادات الواقعة تحت سيطرة المعمرين المباشرة، و تعويضها بمجالس بلدية منتخبة بالاقتراع العام، فتكون السيطرة الحقيقية فيها للأغلبية بطبيعة الحال . و لكن الواقع غير ذلك، فالشعب في البوادي و الأرياف لا يملك لا الثقافة و لا المال، و لا يعرف حتى معنى المجالس البلدية.  فهذا إذن لا يمكن أن يقوم إلا في إطار الاستقلال و زوال الجهل، و القوات العسكرية الفرنسية و مكاتبها العربية من مناطق الجنوب، إذ يستحيل أن ينطبق نظامان مختلفان، الأول مدني (مجالس بلدية) والثاني عسكري (مكاتب عربية) في نفس الوقت على نفس الأشخاص.

 و ربما كان البند الوحيد الذي جاء لصالح التونسيين كاملا غير منقوص هو البند الخاص بحرية الصحافة و الاجتماع، و تأسيس الجمعيات. فتنتشر بمقتضاه الثقافة و الوعي السياسي و الفكري، و تقوى العزيمة على مواجهة المسخ الحضاري و دفع المظالم، و بالتالي تكوين جيل يقدر على النيابة في مجلس الشورى و يدافع عن مصالح بلده الحقيقية أولا، ثم يطالب بالاستقلال الكامل ثانيا، طال الأمد أو قصر.    و نجد موضوع المساواة في الأجور بين أصحاب القدرات المتساوية من الفرنسيين و التونسيين، في صالح الأقلية المحظوظة فقط من التونسيين. و كذلك الأمر بالنسبة لمشاركة هؤلاء في شراء أسهم الأراضي الزراعية و أملاك الدولة. فالمستفيد من ذلك هي الأقلية البرجوازية التونسية وحدها، مع أننا لا يمكن أن نتجاهل المنفعة التي يمكن أن يجنيها باقي الشعب إذ يصبح مزارعا خماسا أو نصافا، لدى التونسيين المسلمين الذين يحترمون عقيدته و تقاليده، و يحفظون كرامته، بخلاف المعمرين المستبدين بكل شيء   لا يراعون شيئا من مقومات شخصيته.

   ومع ذلك كان على الدستوريين المطالبة بإلغاء نفوذ الواردات الأجنبية و صناعاتها على السوق التونسية، فتحفظ بذلك الصناعات و الحرف الشعبية التي كانت مصدر عيش الأكثرية.

    ومن دون شك فإن هذا البرنامج، في جميع بنوده، كان يهدف إلى زوال سلطة الحماية، و تقييدها أمام مقررات المجلس المطلوب تأسيسه، ولم يطالب البرنامج بإلغائها، بل كان يريد العودة بها إلى تطبيق نص معاهدة باردو فتعود للباي السلطة الكاملة على البلاد، و يبقى المقيم العام بمثابة وزير خارجيته،    وسفير فرنسا لديه معا. و يتمكن الشعب التونسي من استرجاع سلطاته الثلاث التنفيذية و التشريعية      والقضائية، فيستطيع حينئذ العودة إلى التمتع باستقلاله و تسيير شؤونه بنفسه.

    و نستنتج من هذه المناقشة أنم المطالب التسعة التي تضمنها برنامج الدستوريين، كانت واقعية جدا، و سارت في إطار قانوني هدفت من ورائه إلى الرجوع بالحماية إلى الالتزام بمبادئ معاهدة باردو. ولكن سلطة الحماية بقيت متصلبة في موقفها و لم تكن لها أدنى إرادة في الإطلاع على نص المطالب مما جعل السيد ديران –انجليفيال، الاشتراكي الفرنسي، يقول : " إنه من الأنفع لنا أن ننظر مليا في المطالب الدستورية التي يطالبنا بها التونسيين حتى نتمكن من مناقشتها. فهم قابلون بإطار الحماية، و بعبارة أخرى أوضح، فهم ملتزمون بالواقع و يقفون  في مجمل القول، عند حدود كيفية التعاون سلطة الحماية.

   و ذكر هذا الكاتب أنه حضر معظم جلسات الوفود الدستورية إلى باريس، في جانفي 1921،          و شهد تصريحها إلى الحكومة الفرنسية بالاعتراف بالحماية كعامل تاريخي لا مناقشة فيه. و قد اطلعنا على العريضة التي قدمها الوفد الدستوري شهر ديسمبر 1920، برئاسة الطاهر بن عمار، و كان ديران انجليفيال من بين أعضائه، و لم نعثر على مثل هذه العبارة، بل إن الوفد الح في الطلب على منح التونسيين دستورا، و تحمل الوفد باسم الشعب التونسي جميع الإجراءات التي يمكن أن تِؤخذ في شأن ممثليهم، و هم : الشيخ الثعالبي، و ابن يحي، و الرياحي، الذين كانوا يمثلون الشعب في قضيته العادلة.

    و لعل التصريح المذكور كان من رئيس الوفد، و لم يكتب في العريضة، و بالتالي فهو مسؤول عنه وحده و ليس الحزب كله. و أكبر الظن أن الذي صرح بذلك هو السيد فرحات بن عياد الذي كان يمثل الحزب فبي باريس منذ شهر أكتوبر 1920. مع أن المعروف أن هدف الدستوريين هو الرجوع بسلطة الحماية إلى تطبيق مضمون معاهدة باردو نصا و روحا، و ربما ذلك ما كان يقصد ديران انجليفيال ؟.

   و استمر الحزب الحر الدستوري التونسي في صراع مرير مع سلطة الحماية التي أنكرت مطالبه      واعتبرتها مخالفة لنص معاهدة باردو و اتفاقية المرسى، و لم تستجب إلا قليلا حيث رفعت حالة الحصار، و أعلنت عن تفريق السلط في السنوات الأولى التي تلت الحرب. و نظرا لسلبية فرنسا          و نظامها و تعنتها أصيب الحزب الدستوري، مع مرور الزمن ، بخيبة أمل، فاضطر إلى التعنت        و الكبرياء، و اتخذ موقفا متصلبا لا رجعة فيه، و رفض مبدأ التعاون مع الحماية، و جاهرها بطلب الاستقلال الكامل و قد كشف بذلك عن هدفه البعيد و الأسمى.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة العاشرة: هياكــل الحـزب.

   تطرقنا في المحاضرة السابقة إلى تحليل البرنامج السياسي للحزب الحر الدستوري، بقسميه العاجل والآجل و نتناول في هذه المحاضرة موضوع النظام الإداري للحزب ، والتعرف على هياكله .

     لقد تأسس هذا الحزب رسميا تحت اسم (الحزب الحر الدستوري التونسي) ، يوم انعقاد مؤتمره الأول بمدينة تونس، بدار الشيخ المختار كاهية، بتاريخ 14 مارس 1920، و لم يعلن عنه جهارا إلا يوم انعقاد مؤتمره الثاني بتونس في 3 جوان 1920، بمنزل الشيخ حمودة المنستيري بالمرسى، حيث تقرر الإعلان عنه حالا و أخذ من مدينة تونس مقرا له، و اعترف به رسميا أثر استقبال الباي محمد الناصر للوفد الدستوري يوم 18 جوان 1920 أيضا، و موافقته على مبادئه.

   و كان القانون الأساسي للحزب الدستوري يفتح عضوية الحزب لكل المسلمين و اليهود التونسيين غير المتجنسين بجنسية أجنبية و القانطين بالقطر التونسي، شريطة أن تلتزموا بمبادئ الحزب و يقسموا يمسن الإخلاص لبرنامجه على كتاب دينهم المقدس،و أن يسعوا في نجاحه بكل وسيلة و بصدق               و إخلاص. و يقع هذا القانون في واحد و عشرين فصلا حدد فيها النظام العام للحزب كالآتي :

1. الشعب المحلية.
2. اللجان التنفيذية المحلية.
3. شعب الجهات.
4. اللجان المركزية للجهات.
5. مؤتمرات الجهات.
6. المؤتمر العام.
7. اللجنة المركزية الرئيسية (و تعرف أيضا باسم اللجنة التنفيذية).

    و قد نص الفصل الخامس من هذا القانون على السماح لأعضاء الحزب بتأسيس شعب محلية في كل بلد تونسي، و حدد النظام الداخلي لهذه الشعب و اعتبر حضور جلساتها أمرا ضروريا على كل عضو تابع لها، و له بها بطاقة انخراطه في الحزب، و أن يقوم بواجبه نحوها. و أن حدث إن أخل العضو بأحد واجباته تقترح اللجنة التنفيذية المحلية طرده من الحزب على اللجنة المركزية في الجهات.

   و كان دور الشعب المحلية هو ربط عمليات الحزب في الجهات، و قيام أعضائها بالبحث و مد بعضهم بالوسائل اللازمة لنشر الدعاية للحزب و إدخال فكرته في وسط الطبقات التونسية و جلبهم للمشاركة في أعماله.    والسلطة العليا في الشعب المحلية هي (اللجنة التنفيذية المحلية) التي تتركب من ثلاثة أعضاء على الأقل يقع انتخابهم في جلسة مكونة من جميع الأعضاء التابعين للشعبة. و تجتمع هذه اللجنة لزوما مرتين في الشهر عل الأقل من أجل توزيع العمل على جميع أعضاء الشعبة و تكوين الحركات المحلية و استدعاء الجلسات العامة للشعبة. و اللجنة المحلية ملزمة بالارتباط المستمر بلجنة الجهة و إعطائها تقارير عن جميع حركاتها. و نص القانون على تأسيس شعب للجهة لربط العلائق بين أن لا تتأسس شعبة للجهة إلا إذا احتوت على خمس شعب محلية لا يقل أعضاؤها على خمسمائة عضو. و في حالة انفراد شعبة محلية، يجب أن تلحق بأقرب شعبة للجهة.و من مهام شعب الجهات احترام مبادئ و برنامج الحزب و مقررات المؤتمر العام و اللجنة التنفيذية المركزية. و على هذه الشعب أن تجعل تراتيب خاصة بها لا يمكن بحال أن تغاير تراتيب الحزب. و قبل فتح كل مؤتمر جهوي يجب أن تعقد جلسة الشعب العمة لتسمية نواب للمؤتمر. و تدير شعب الجهات لجنة مركزية للجهة تتركب من خمسة أعضاء على الأقل يؤخذ نصفهم من البلدة التي هي مركز الجهة و النصف الآخر ينتخبه مؤتمر الجهة. كما ينتخب النصف الأول من الجهة. و اللجنة مسؤولة عن أعمالها أمام مؤتمر الجهة. و تتلخص مهام اللجنة المركزية للجهة في ربط العلائق مع الشعب المحلية و مدها بتعليمات اللجنة المركزية الرئيسية بتونس مع

جميع الإرشادات التي تفيدها في أعمالها. كما للجنة المركزية للجهة السلطة المطلقة في ضبط العمل في دائرتها و عليها أن تتخابر و تتفق مع اللجنة المركزية بتونس. و إن كان هذا العمل على جانب من الأهمية، توجه منظمة عن حركة الحزب في كافة أنحاء جهتها إلى اللجنة المركزية للحزب بتونس، و توجيه اثنين من أعضائها كل شهر إلى نفس اللجنة بتونس لإحاطتها علما بحالة الحزب في الجهة و إعدادها (اللجنة) بما تراه من الإرادة و المقترحات. أما مؤتمرات الجهات فيجب أن تجتمع قبل انعقاده المؤتمر العم للنظر في حالة الحزب بالجهة و تحرير الاقتراحات المراد عرضها على المؤتمر العام، و تعيين نواب الجهات في هذا بالجهة و تحرير الاقتراحات المراد عرضها على المؤتمر العام، و تعيين نواب الجهات في هذا المؤتمر العام. و يتألف مؤتمر الجهة من نواب الشعب المحلية الذين يقع تعيينهم في جلسة عامة. و من أعمال مؤتمر الجهة انتخاب اللجنة المركزية للجهة. و يتألف المؤتمر العام من نواب شعب الجهات الواقع تعيينهم من طرف مؤتمرات الجهات على نسبة عضو عن كل شعبة واجب وجوده في مؤتمر الجهة، لتمثيل الشعبة و عضو آخر عن كل فريق يتركب من مائتين و خمسين عضوا عاملا. و يستمع المؤتمر العام إلى تلاوة تقرير اللجنة التنفيذية المركزية للحزب بتونس و يبحث في سياسة الحزب و منهجه و له السلطة العليا في إدخال كل التغيرات على برنامج الحزب السياسي و تنظيماته و تقع مقررات هذا المؤتمر بالأغلبية المطلقة و ينتخب أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب بتونس. و يتجدد هذا الانتخاب على رأس كل سنتين. و تتركب هذه اللجنة من خمسة عشر عضوا منهم كاتب عام، و كاتب عام معاون. وتتلخص مهام هذه اللجنة في مراعاة مقررات المؤتمر و الحفاظ على برنامج الحزب و تسهر على تطبيقه، و تعمل على انتشار حركة الحزب في البلاد و تقوم ببسط أعمالها و مساعيها لدى المؤتمر،    و إيصال آراء المؤتمر العام و مقرراته إلى الشعب المحلية في أنحاء البلاد، و مدها بالتعليمات اللازمة لنشر حركة الحزب. و اللجنة التنفيذية المركزية مسؤولة لدى المؤتمر العام في أعمالها و من واجبها أن تدعو المؤتمر العام لعقد جلسة عامة فوق العادة .و حدد القانون الأساسي للحزب طيفية أداء اليمين الدستورية، و القبول في العضوية للحزب فأوجب على كل من يروم الانخراط في سلك الحزب أن يقسم باليمين المعبرة شرعا على أنه يحترم أصول الحزب و برنامجه. و هذه صورة اليمين المقررة : "أقسم بالله العظيم على العمل بمبادئ الحزب الدستوري التونسي و الإخلاص له مدة حياتي، و لا أخونه أبدا، و الله على ما أقول شهيدا، و هو حسبي  و نعم الوكيل".و يشترط في كل شخص يريد الدخول للحزب أن يقدمه عضوان من أعضاء الحزب ثم يقع عرضه على اللجنة المحلية فإذا قررت قبوله أقسم اليمين لدى الهيئة المكلفة بقبول الأعضاء، فإذا وافقت على قبوله، فله أن يرفع طلبه إلى اللجنة المركزية بتونس و هي تقرر ما تراه .أما فيما يخص الصحافة فإن الحزب يختار لسان حاله من بين الصحف التونسية الصادرة بالعربية  و العبرية و الفرنسية، لنشر دعايته و أفكاره في الأوساط الشعبية. و قد حدد الحزب كيفية تمويله رسميا على أن يشترك كل عضو فيه بعشرة فرنكات شهريا. و يتقبل الحزب كل التبرعات التي تقدم إلى أمين ماليته أو تسلم له.و التزم الحزب في سياسته الخارجية بتوجيه وفود عنه إلى باريس و غيرها، لخدمة مبادئه و الدعاية لها، و تنفيذ مقرراته كلما مست الحاجة لذلك. و وضح مهام هذه الوفود و البعثات و حدد مهامها، و ألح خاصة على وجوب توحيد جهودها ، وضمها إلى جهود البعثات و الوفود السابقة فيه. و أن تركز وفود  الحزب جهودها حول عقد المؤتمرات، و إلقاء الخطب و تنظيم الندوات و كل ما من شأنه أن يعرف الأمم الأخرى بمطالب الشعب التونسي و يعرب لها عن إدارته ، ويجب أن يعين عمل هذه الوفود و يحدد بناء على موافقة أعضاء الحزب و لجنته الإدارية.  و بناء على هذا القانون الأساسي للحزب الحر الدستوري التونسي أجمع الحاضرون على منح رئاسة الحزب للشيخ عبد العزيز الثعالبي، غيابيا و وقع انتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية الأولى. و اختير المحامي أحمد الصافي أمينا عاما للحزب و المحامي صالح فرحات أمينا عاما مساعدا و الشيخ حمودة المنستيري أمينا للمال، و محمد الصالح خناش أمينا مساعدا للمال.  و السادة الأعضاء المنصف المنستيري، و الطيب الجميل، و محي الدين القليبي، و أحمد توفيق المدني، و علي كاهية و الشاذلي خزاندر. وقد انعقد مؤتمر الحزب الثالث في 21 ماي 1921، بدار الشيخ المختار كاهية، إثر خروج الشيخ الثعالبي من السجن، و تقرر تسليمه إدارة الحزب. و اطلع على مطالبه التي أصبحت تسعة بعدما زادها الوفد الدستوري الثاني إلى باريس مطلب التعليم الإجباري.  ثم كان أعضاء الحزب على ميعاد يوم 29 ماي 1921، بدار الشيخ حمودة المنستيري، تحت رئاسة  الشيخ الثعالبي، و أعيد انتخاب اللجنة التنفيذية. فبقيت أمانة الحزب العامة في يد المحامي أحمد الصافي،     و اختير أحمد توفيق المدني أمينا عاما مساعدا للقلم العربي و الطيب الجميل أمينا عاما مساعدا للقلم الفرنسي، و الشيخ حمودة المنستيري أمينا للمال، و المحامي الإسرائيلي البير بسيس، أمينا للمال بالنيابة،  و لكنه لم يحضر إطلاقا. كما اختير الأستاذان المنوبي درغوث و الطيب رضوان مستشارين للمالية. أما السادة الأعضاء وهم: عبد العزيز الثعالبي و هو في نفس الوقت رئيس الحزب، و صالح بن يحي، و محمد الرياحي، وعلي كاهية، و إيلي جريج، والمحامي ألبير وزان  وهما إسرائليان، ولم يحضرا اجتماعات الحزب بتاتا. كما انتخب المؤتمر لجنة تشريعية للحزب برئاسة الثعالبي، و بعضوية أحمد الصافي و غيره. ثم تشكلت لجنة لنشر الدعوة الدستورية من بين أعضاء الحزب البارزين كالثعالبي و الصادق النيفر. و وقع تشكل اللجنة المالية تحت رعاية السيد حمودة المنستيري، و محمد الصالح ختاش. وقد لاحظت هيئة الأركان الحربية الفرنسية أن خروج الشيخ الثعالبي من السجن في شهر ماي 1921، قد أحدثت فرحة منقطعة النظير في تونس، فاجتمعت من حوله وفود عمال (عربات الترام)، و عمال السكك الحديدية، و تلامذة المدرسة الصادقية، و الموظفون التونسيون بالإقامة العامة، و أعضاء الشعب الدستورية بالمدن و المراكز الداخلية ، و هذا فضلا عن شيوخ جامع الزيتونة. و ذكرت الهيئة أن الثعالبي كان، أثناء أحداث يوم 5 أفريل 1922 (تنازل الباي محمد الناصر عن العرش، و المظاهرات الشعبية التي تبعت ذلك و رفض الإصلاحات الفرنسية)، يقيم خفارة في مكتب الحزب بشارع إنكلترا في قلب مدينة تونس. و إن دل ذلك على شيء فإنما يدل على الجد و المثابرة لإعطاء الحزب نفسا جديدا  و قويا.

الهـــــــوامــــش:

1- صلاح العقا د المغرب العربي ، دراسة في تاريخه الحديث وأوضاعه المعاصر  الجزائر- تونس- المغرب الأقصى ، مكتبة الانجلو المصرية القاهرة دون تاريخ

2- شارل أندري جوليان: افريقيا الشمالية تسير، القوميات الإسلامية والسيادة الفرنسية ترجمة المنجي سليم وآخرون  الدار التونسية للنشر، الشركة الوطنية للنشر الجزائر 1976

3- علي المحجوبي: جذور الحركة الوطنية التونسية 1904-1934 تعريب عبد الحميد الشابي ط1  المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون( بيت الحكمة) تونس1999

4- علي المحجوبي: انتصاب البحماية الفرنسية على تونس، تعريب عمر بن ضو،حليمة

            قرقوري،علي المحجوبي ط² دار سراس للنشر،تونس 1993

5- جاك بارك : المغرب بين حربين، لوسوي ، باريس، 1962

6- حسن حسني عبد الوهاب : خلاصة تاريخ تونس، تقديم وتحقيق حمادي الساحلي، دار الجنوب للنشر  تونس

7- الطاهر عبد الله : الحركة الوطنية التونسية رؤية شعبية قومية جديدة 1830-1956 ط2 دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة ، تونس 1990

8- الحبيب ثامر: هذه تونس، تقديم الرشيد إدريس، مراجعة وتحقيق حمادي الساحلي ط1 دار الغرب

         الإسلامي لبنان 1988

9- شارل أندري جوليان : المعمرون الفرنسيون وحركة الشباب التونسي، تعريب محمد مزالي ، والبشير بن سلامة ، الشركة التونسية للتوزيع ، تونس 1985

10- أحمد توفيق المدني: حياة كفاح ( مذكرات ) الجزء الأول ، في تونس 1905-1925 ، الشركة الوطنية للنشروالتوزيع ، الجزائر 1976

11- الحبيب ثامر هذه تونس تقديم الرشيد إدريس ، مراجعة و تحقيق حمادي الساحلي ط1 دار الغرب الإسلامي       

12- أحمد القصاب : تاريخ تونس المعاصر 1881 – 1956 تعريب حمادي الساحلي  الشركة التونسية للتوزيع ، تونس.

13- الطاهر بالخوجة الحبيب بورقيبة – سيرة زعيم . شهادة على عصر مطبقة علامات تونس.

 

  

   14- Ganiage Jean :Les Origines du Protectorat français en Tunisie

Ed 1P.U.F Paris :1959 .

15- Goldstein Danie ou Annexion aux Chemins croisés de l’histoire Tunisienne 1914-1922,  (Tunis, MTE, 1978).

16 – Juliens Charles André : L'Afrique  du nord en marche nationalisme musulmans et souveraineté Française paris 1972.

1970.

17- Laroui Abdellah : L’histoire du Maghre,éd. MASPERO, Paris: 1970.

18- Lejri Mohamed –Salah:Evolution du Mouvement National Tunisien, des origines à la deuxième guerre mondiale, (Tunis, MTE, 1974) (Thèse) T.I..

19- Mahjoubi Ali : Les origines du mouvement national en Tunisie 1904-1934 publications de l’université de Tunis 1982 .

20- Raymond Rober, le Nationalisme Tunisien, Afrique Française, Renseignements  coloniaux et documents ,No.6Bis 35 année , (Juin 1925

21-Tlili Bechir: nationalisme, socialisme et syndicalisme dans le Maghreb des année:1919-1934, tome 01.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بســـــــم اللــــه الرحمـــن الرحيـــم

الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية

وزارة التعليم العالي والبحث العلمي

 

جامعة8  ماي 1945 قالمة

كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية

        قسم التاريخ

في تاريخ تونس المعاصر

سلسلة محاضرات مقررة على طلبة السنة الأولى ماستر

تخصص تاريخ المغرب العربي المعاصر

السداسي الثاني

الأستاذ الدكتور/ شايب قدادرة

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الأولى: تطور نشــاط الحــزب الدستوري التونسي. 

   لم يشارك اليهود التونسيون في نشاط الحزب رغم المناصب العليا التي خولت لهم به مثل منصب نائب اللجنة المالية. و سواء تأثر أعضاء الحزب المسلمين بآراء محمد باش حامبة و وصاياه بالعناية باليهود و إشراكهم في الحركة الوطنية، أو إنهم وقعوا تحت تأثير الثعالبي الذي طالما أوصاه باش حامبة باليهود، فإن الأعضاء المسلمين قد فتحوا أمام اليهود أبواب الحزب على مصراعيها. و ذلك لأمرين على الأقل، لكونهم يهودا تونسيين، لهم الحق في العضوية ثم للاستفادة منهم استراتيجيا و ماديا.

  و كانت الصحافة هي الوسيلة الأولى التي اعتمد عليها الحزب في نشر آرائه و مبادئه بين صفوف الشعب و كسب عضويتهم. فبالإضافة إلى الخطب التي كانت تلقى في المساجد، و النوادي، و الساحات العامة، و كذلك الندوات الشعرية، هناك الصحافة العربية و الفرنسية التي كانت تبث الدعاية للحزب بكامل أرجاء الوطن في المدن و الأرياف، ابتداء من يوم اعتراف الباي به. فمن الصحافة العربية التونسية نذكر (جريدة الصواب)، التي تبنت آراء الحزب رسميا و اهتمت بالدعاية له. و كانت تشرح مطالبه، و تنوه بغاياته و تشيد بذكره، و تبث أفكاره ، و تعلق على أعمال رجاله في الخارج و الداخل.   و لما عطلت سلطة الحماية هذه الجريدة، يوم 5 أفريل 1922، لاهتمامها بحادثة تنازل الباي عن العرش و خلفتها جريدة (الاتحاد)، و لما تعطلت هذه الأخيرة من طرف صاحبها باتفاق مع سلطة الحماية، أنشأ الحزب الدستوري جرائد أخرى عبر فيها عن آرائه السياسية و غيرها ، و كان من بينها و أبرزها جريدة (الأمة) و (المبشر) و (العصر الجديد)  و(إفريقيا)  ولكنها جميعا تعطلت هي الأخرى، لأسباب كثيرة منها ما أوقفته سلطة الحماية، و منها ما توقف من تلقاء نفسه لأسباب مالية و غيرها.

    و هناك جرائد عربية أخرى ظهرت لنفس الغرض و صارت اللسان الرسمي للحزب الحر الدستوري التونسي، و أبرزها جريدة (الإرادة) التي ظهرت سنة 1934، لصاحبها الأستاذ المنصف المنستيري.

   و من صحافة الحزب الفرنسية، نذكر  جريدة (صدى الصحافة l’écho de la presse ) التي أسسها الشيخ الثعالبي في مارس 1923. و قد دافعت بشدة عن القضية التونسية، و لكنها توقفت عن الصدور على اثر محاكمة صاحب امتيازها، الفرنسي بول  دوستوكهولم. ثم أصدر الحزب جريدة أخرى سماها (الحر le libéral) سنة 1924. و لما صار الأستاذ الشاذلي خير الله عضوا في لجنة الحزب التنفيذية، أصدر جريدتيه (اللواء) (L’Etendard) و (صوت التونسي La voix du Tunisien) التي شارك فيها أحمد الصافي، ة صالح  فرحات، و سواهما من أعضاء الحزب البارزين. ثم تأسست جريدة فرنسية أخرى سنة 1932،  هي (العمل التونسي L’Action Tunisienne) لصاحبها الحبيب بورقيبة فيما بعد.

   و قد عملت كل هذه الجرائد العربية و الفرنسية على نشر الدعاية للحزب و كسب الأعضاء          و جمع الأموال من الفلاحين،و العمال، و التجار، و الموظفين التونسيين. و أثارتهم ضد سياسة سلطة الحماية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية. و قدمت هذه الدعاية للحزب أكبر خدمة في جمع الأموال لتغطية مصاريفه في الداخل و الخارج. و مع ذلك فقد أسس الحزب سنة 1920 مجلة خصصها لجمع الأموال، و هي (مجلة الفجر) التي كانت في ظاهرها علمية و أدبية و فكرية، و لكن باطنها كان وسيلة لجمع الأموال .

    و مع ما كانت تقدمه هذه المجلة من أموال للحزب، و ما كان يتحصل عليه أيضا من الاشتراكات عن طريق أعضائه، فإن ذلك لم يكن كافيا لمصاريفه الكثيرة. و اعتمد الحزب إذن على تبرعات الشعب الحرة، و كلف بعض أعضائه بجمع الأموال من مختلف المدن و مناطق البلاد التونسية.

   و لم يكتف الحزب بالاعتماد على مشاركة الشعب التونسي المالية و المعنوي، بل تعداها إلى جمع التبرعات من الشعب الجزائري. و وجه الدعوات لطلب الإعانة من الجمعيات الإسلامية في العالم. فجاء في تقرير حكومة الحماية الفرنسية بتونس، أن الشيخ الثعالبي قد راسل يوم 25 نوفمبر 1922، الجمعية الإسلامية بلندن، يطلب منها إعانة مالية لحزب الدستور، و شرح لأعضائها، الذين كان أغلبهم هنودا، ما يعانيه الشعب التونسي المسلم من مظالم سياسة حكومة الحماية و تعسف المعمرين الفرنسيين. و قد ألح الثعالبي في طلب الإعانة المادية من هذه الجمعية حتى لا يتعرض الحزب إلى الزوال، و حتى يتمكن من مواصلة كفاحه ضد طغيان و استبداد المسيحيين.

   و ذكرت الوثيقة أن هذه الجمعية الإسلامية قد سبق لها و أن أرسلت إعانات مادية إلى الريفيين المغرب الأقصى، و هو ما جعل الثعالبي يسرع في توجيه الطلب إليها. و قد ألح المقيم في هذه الرسالة على الرئيس الفرنسي، في إبلاغ السفارة الفرنسية بلندن، هذا الخبر لكي تعمل من جهتها على التأثير على هذه الجمعية و تمنعها من الاستجابة إلى إرادة الثعالبي. ثم طلب المقيم من حكومته أن تقدم له تقريرا مفصلا عن هذه الجمعية الإسلامية. و ختم رسالته آسفا : "إنه من المؤسف أن يتلقى حزب الدستور إعانات من الخارج تمول نشاطه من جديد، و هو الآن في حالة تدهور واضح، و عاجز عن جمع الأموال التي يحتاج إليها دعايته من القطر التونسي.

   و كان الحزب فعلا يعاني من أزمة مالية حادة إذ منعته الحكومة الفرنسية، الاستفادة من تبرعات الشعب بقرار صدر سنة 1921، خاصة بعد أن تبين لها خلال التحقيق الذي أجرته في قضية الشيخ الثعالبي، اعتماده الكلي على اشتراكات و تبرعات التونسيين.

   و لكن ذلك لم يقلل من عزيمة أعضائه. فبالإضافة إلى رسالة الثعالبي إلى الجمعية الإسلامية بلندن، نجدهم يجتمعون تحت رئاسة الثعالبي، في بداية شهر جوان 1922، في منزل أحد أعضاء الحزب.      و قد اتفقوا على توسيع عملية التبرعات باسم الجمعيات الخيرية و استغلالها لصالح الحزب الدستوري.   و رغم أن أعضاء هذه الجمعيات الخيرية لم يكونوا كلهم دستوريين، فان الثعالبي استطاع إقناعهم بفكرته هذه و أكد لهم أن الحكومة الفرنسية لا تستطيع أن تمنع التبرعات الخاصة بالجمعيات الخيرية.

   و لم يكن ذلك يخفي عن أعين الصحافة الاستعمارية التي نددت بهذه العملية و طلبت من حكومة الحماية أن تراقب سجل التبرعات الخاصة بالجمعيات المذكورة، و أن تطلب منها حسابات دقيقة.

  و إذا كانت دعوة الحزب قد انتشرت في العالم الخارجي، وطلب رجاله الإعانة المادية و المعنوية من الجمعيات الإسلامية في العالم، ترى هل كان لهذا الحزب صدى في الجزائر؟ و هل وجه الدعوة للجزائريين أيضا؟ و هل استجاب الشعب الجزائري إلى ندائه؟.

   لقد اعتبر الجزائريون قضية الحزب الحر الدستوري التونسي قضيتهم و انتصارهم هو انتصارهم. فاندفعوا في العمل فيه و دعموه بجهودهم السياسية و المالية و الفكرية. و لم يكن هذا العمل مقصورا على المهاجرين الجزائريين المستقرين بمختلف المدن التونسية، بل كان منتشرا أيضا في المدن الجزائرية  و أريافها. و كان الجزائريون يهدفون إلى استقلال القطرين التونسي و الجزائري. و ذكر تقرير حاكم الجزائر العام إلى المقيم العام الفرنسي بتونس في نهاية سنة 1920، أن الجزائريين كانوا ملتفين حول جمعية دينية تعمل على الدعاية لاستقلالها عن طريق التونسي و الجزائري معا. و هم كلهم ثقة بأن كل المستعمرات الفرنسية ستنال استقلالها عن طريق هذه الجمعية مثل ما هو الأمر في مصر و ليبيا و غيرهما من البلدان التي نالت استقلالها بناء على مبادئ الرئيس ويلسون.

   وكان الشيخ صالح بن يحي على راس هؤلاء الجزائريين، إذ كان عضوا بارزا في حزب الدستور التونسي، و استغل حرفته التجارية و تجول في منطقة بني مزاب بالواحات الجزائرية و جمع سنة 1920، مبلغ 130000 فرنك باسم "دستور أهل تونس، و مديره الشيخ الثعالبي، و وجهها للحزب.

   و قد شارك في تمويل الحزب الدستوري جزائريون كثيرون في الجمعية الدينية التي ذكرها حاكم الجزائر العام في تقريره المذكور، و شاركوا فيها بأموالهم، و قرنوا مصيرهم بمصير الحزب الدستوري التونسي،   و ضموا نشاطهم لنشاطه، و أموالهم لأمواله. و كل انتماءاتهم تدل بوضوح على اتجاههم الوحدوي العربي الإسلامي. فكانوا كلهم فيما يظهر من الملاكين الكبار و التجار في الجزائر و المغرب الأقصى ،       و المغضوب عليهم و المعاديين لسلطة الاستعمار. و منهم من شارك في وفد الاحتجاج على قضية التجنيد الإجباري المفروض على الجزائريين، و منهم من كان يراسل صحف المشرق العربي و ينشر فيها، و منهم أصدقاء سليمان الباروني و كتابه الذين يجمعون المال لإقامة حركة ضد الفرنسيين.

   و قد أكد التقرير أن جهود هذه الجمعية كانت موجهة إلى تدعيم الحزب الحر الدستوري التونسي،        و هي تنظم الاشتراكات و تجمع التبرعات لنشر دعايته، و تمويل بعثاته إلى باريس للمطالبة بالدستور،     و كذلك لسد مصاريف قضية الشيخ عبد العزيز الثعالبي.

   و من أنشط أعضاء هذه الجمعية و أبرزهم الشيخ صالح بن يحي بن الشيخ سليمان، و الشيخان بعلي صالح بن بعلي، و أطفيش إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، و هم مراقبو التلامذة الجزائريين بمدرسة (السلام) القرآنية الحرة في تونس، التي كان يشرف علي إدارتها الأستاذ الشاذلي المورالي. و نذكر أيضا الشيخ صالح بن الحاج عمر المدعو (سيوسيو) الذي يعتبر أيضا من أعداء الهيمنة الفرنسية. و كانوا جميعا على علاقة وطيدة مع الشيخ ابن يحي الذي ألقت عليه سلطة الاحتلال الفرنسي القبض صحبة الحاج محمد الرياحي، في تونس، يوم 28 أكتوبر 1920، بتهمة تهديد أمن الدولة.

   و رغم أن الفرنسيين قد أعطوا لهذه الجمعية الجزائرية عدة تفاسير، و اعتبروا من وحي الحركة الشيوعية العالمية (و هو تفسير كان سائدا في تلك الفترة) فإن موقف الجزائريين من الحزب الدستوري لدليل على وحدة الهدف و المصير.

   و قد انتشرت دعاية الحزب في جميع أرجاء البلاد التونسية، و تكونت له شعب بمدنها الرئيسية، أخذت تتطور تدريجيا. و كانت لهذه الشعب صحف ناطقة باسمها تنتشر آراء الحزب، مثل جريدة (العصر الجديد) بمدينة صفاقس، التي كان يحرر جل مقالاتها الأستاذ محي الدين القليبي. و مما يدل على تمسك الشعب التونسي بمبادئ الحزب و أهدافه البعيدة و القريبة، احتجاجه على تعطيل سلطة الحماية لهذه الجريدة في شهر فيفري 1924. و قد عبر على ذلك بتنظيم مظاهرات عمت مدينتي تونس و صفاقس.

   و جاء في تقرير هيئة الأركان الحربية الفرنسية، سنة 1922، إن مبادئ الدستور كانت منتشرة في جميع أنحاء البلاد. وكان الشعب لا يفرق بين عبارتي (الدستور) و (الجهاد المقدس). و رغم ما في هذه العبارة من مبالغة، تهدف إلى تحريض الحكومة على الحزب الدستوري، فإنها في نفس الوقت تبرهن على انتشار مبادئ الدستور في المدن و الأرياف و الجبال التي كانت تحت الحكم العسكري. و قد عمت هذه المبادىء جميع الشرائح الاجتماعية. و كان أعضاء الحزب يعملون على تأسيس الشعب الدستورية في المدن الرئيسية بالبلاد، كصفاقس، و سوسة و غيرها، فضلا عن شعبه التي انتشرت بسرعة في مدينة تونس. و قد اعتمد الحزب من أجل تحقيق هذا الهدف، بالإضافة إلى الصحف العربية و الفرنسية التي لعبت دورا بارزا في نشر أفكاره، و شرح مواقفه، و التعريف بنشاطه، اعتمد على العناصر الشابة. و استغل طلبة جامع الزيتونة و غيره من مراكز التعليم، في بث الدعاية له خاصة أثناء عطلهم الصيفية.و قد ذكرت مصالح الشرطة الفرنسية أن أعضاء الحزب الدستوري قد طلبوا في  صيف 1922، من طلبة جامع الزيتونة الأعظم أن يستغلوا عطلهم الصيفية في تنظيم شعب للحزب بمدنهم و قراهم و العمل على الدعاية له وكسب المنخرطين و الأعضاء بهذه الأماكن هذه بعض الإشارات إلى نشاط الحزب الحر الدستوري التونسي و كيفية تمويله، و نشر مبادئه بين صفوف الشعب، و تكوين شعب له على مستوى القطر التونسي. و قد أردنا من خلالها توضيح القاعدة التي تأسس عليها الحزب و الطرق التي بنى عليها.

 

 

 

 

 

 

 المحاضرة الثانية: المؤتمر الأفخاريستي وذكرى مرور 50 سنة على فرض الحماية الفرنسية.

    لقد اعتبر الفرنسيون انعقاد المؤتمر الأفخارستي بالعاصمة التونسية في ماي 1930 "حملة صليبية تاسعة" و رأى فيه التونسيون مساسا بكرامتهم و إهانة لدينهم. وعنه يقول الحبيب بورقيبة في كتابه (حياتي، آرائي، جهادي):"في الوقت الذي كانت فيه جريدة صوت التونسي رائجة"، جد حدثان سياسيان هامان أثرا عليّ تاثيرا كبيرا أولهما : انعقاد المؤتمر الأفخارستي بتونس سنة 1930 لا سنة 1931 كما قيل في الإذاعة و التلفزة ، و كنت ذلك العام متربصا عند المحامي الأستاذ: "سيبو" و قد انعقد هذا المؤتمر احتفالا بمرور مائة سنة على احتلال الجزائر و كان نكبة على البلاد فقد غصت شوارع تونس بالرهبان من جميع أطراف الدنيا حتى أصبح المرء لا يستطيع الخروج و كان مع الرهبان شبان يرتدون ملابس تشبه ما كان يرتديه أفراد الحملة الصليبية الثامنة التي قادها الملك الفرنسي لويس التاسع المعروف باسم القديس الويس و التي توقفت هنا على هضاب قرطاج سنة 1270 و أصيب فيها لويس التاسع بالطاعون الذي قضى عليه و كان هؤلاء الشباب مرتدين ملابس قساوسة القرن الثالث عشر و رافعين أعلام بيضاء مكتوبا عليها "الصليبية التاسعة" أي  ها إننا دخلنا تونس التي لم يستطع لويس التاسع أن يقتحمها في عهد المستنصر بالله عام 1270 و كانت اللجنة العليا المشرفة على هذا المؤتمر تضم بالإضافة إلى البابا في الفاتيكان، الباي و الوزراء و شيخ الإسلام و الباش مفتي و غيرهم، و من قبل ذلك التاريخ عمدت الكنيسة في تونس سنة 1925 و قد - كنت إذاك في فرنسا إلى إقامة تمثال للكاردينال لافيجري الذي كان داعية تنصير إفريقيا الشمالية كلها. و قد نصبت له تمثالا كبيرات في مدخل باب البحر على بعد قليل من جامع الزيتونة بتلك الساحة التي تفتح عليه المدينة العربية القديمة و كان التمثال يجسم الكاردينال و في يده صليبا يستعد لتركيزه على الأرض التونسية .و قد وقعت مظاهرات ضد نصب هذا التمثال، و سجن من سجن من المتظاهرين و احتج الدستوريون القدامى كالعادة عند طريق الكتابات و لم يسفر كل ذلك عن طائل و مرت مصيبة المؤتمر الأفخارستي هذه".

    إن ما يمكن استخلاصه من إصرار سلطات الحماية الفرنسية على تنظيم هذا المؤتمر بهذا الشكل و بهذا المحتوى ليؤكد حقيقة الحقد الصليبي الدفين و كرههم الشديد للإسلام و المسلمين و بالتالي فإن تنظيم هذا المؤتمر يكون قد فضحهم و كشف عن نواياهم الخبيثة أكثر مما خدمهم و في نفس الوقت فقد عبر رد فعل الوطنيين التونسيين تجاه هذا المؤتمر عن عمق تمسكهم بلغتهم و بدينهم الإسلامي الحنيف.

   بينما تمثلت الحادثة الثانية في اعتزام السلطة الفرنسية إقامة الاحتفالات بمناسبة مرور خمسين سنة على احتلال تونس (1881-1931). وعن هذا الحدث يضيف الحبيب بورقيبة : "و في نهاية عام 1930 نفسه في نوفمبر أو ديسمبر، شاع خبر مفاده أنه سيحتفل في العام القادم بالذكرى الخمسين لاحتلال تونس من طرف الجيوش الفرنسية و أجمع الناس على أن هذا الاحتفال سيكون نكبة أخرى".   ولمواجهة هذه المستجدات اجتمع في نزل "لوريون Orient " أعيان البلاد و جماعة من الحزب الدستوري القديم أمثال الطيب رضوان مع الطاهر صفر، البحري قيقة بحضور الحبيب بورقيبة و قرر المجتمعون إنشاء جريدة يومية و انتخبوا هيئة التحرير و كان الحبيب بورقيبة من بين أعضائها رفقة الطاهر صفر  وصالح فرحات ،و استطاع هذا الجيل أن ينفخ في الجريدة روحا جديدة بموافقة الشاذلي خير الله.      وقاموا بحملة للتشهير بالاستعمار و فضح مخططاته الأثيمة. و استجابة لطلب المقيم العام  دعا صاحب الجريدة الشاذلي خير الله المحررين التخفيف من لهجتهم، فانفصل عدد من الوطنيين الأحرار من جريدة "صوت التونسي.

 

 

 

 

 

المحاضرة الثالثة: ظهور جماعة جريدة العمل التونسي ونشاطها

  يعود ظهور جماعة جريدة العمل التونسي إلى الموقف الذي اتخذه الشاذلي خير الله (رئيس جريدة صوت التونسي) استجابة لطلب المقيم العام الفرنسي في تونس والمتمثل في التخفيف من لهجة أعضاء الجريدة تجاه نظام الحماية فانفصل عدد من الوطنيين الأحرار. منها ثم حاولت السلطة الفرنسية من جهتها القضاء عليهم و على نشاطهم فقدمتهم للمحاكمة سنة 1931 و لكن الشعب تضامن معهم و قام بمظاهرات في الشوارع أجبرت سلطة الاحتلال على التراجع و إلغاء المحاكمة. فكان لذلك انعكاس إيجابي على مسار الحركة الوطنية الصحيح، و عمت فرحة كبيرة في الأوساط الشعبية التي تعلقت أكثر بهؤلاء الشباب الذين تولوا الدفاع عن القضية التونسية ثم بادر هؤلاء الشباب إلى إصدار جريدة وطنية جديدة ناطقة بالفرنسية منذ أول نوفمبر 1932 بعنوان (العمل التونسي L’Action Tunisienne)

لقد كان لجماعة العمل التونسي منذ تأسيسها عام 1932 نشاط دءوب وتأثير فعال في الأوساط الشعبية التونسية، حيث أدى ذلك الى جملة من المواجهات و المصادمات العنيفة مع الإدارة الاستعمارية ، وتجلى هذا التأثر بالخصوص في قضية التجنيس التي أصبحت في صدارة القضايا الوطنية منذ مطلع الثلاثينيات إذ شنت جريدة العمل التونسي حملة شعواء على قانون التجنيس. لما يمثله من خطر يهدد الهوية التونسية العربية الإسلامية، و دعت إلى منع دفن المتجنسين التونسيين بالجنسية الفرنسية في المقابر الإسلامية. فكثرت المصادمات بين الجماهير الشعبية و قوات الأمن في عدد من المدن التونسية، مثل تونس العاصمة و بنزرت، و المنستير، بسبب وفاة بعض المتجنسين، و اضطرت السلطة الفرنسية في آخر الأمر إلى تخصيص أماكن لدفن المتجنسين خارج مقابر المسلمين فكان ذلك انتصارا كبيرا أحرزته الحركة الوطنية التونسية بوجه عام و جماعة جريدة العمل التونسي بوجه خاص.

 

    و هكذا انبعثت الحركة الوطنية التونسية انبعاثا جديدا، و أخذ الحزب يعمل لرص صفوف الحزب    و جمع كلمة العناصر القديمة و عناصر الشباب الجديدة، و رأى أن الوقت قد حان لإعادة تنظيم من جديد على أسس متينة، فشرع في وضع خطط ملائمة لظروف تلك المرحلة و مسايرة لما اكتسبه الشعب من وعي وطني و تعبئة واسعة، و كان الدافع لسلوك هذا الاتجاه الجديد هو ما وقف عليه الحزب الدستوري من نشاط و اندفاع و كفاءة في عناصر الشباب الجديدة، و لما رأت اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري ما أحرزه هؤلاء الشباب من نجاح عقدت مؤتمرا وطنيا عاما –المؤتمر الأول للحزب الدستوري- في تونس يومي12 ، 13ماي 1933–مؤتمر نهج الجبل-.

و منذ افتتاح المؤتمر، ألقى الحبيب بورقيبة، رئيس تحرير جريدة "العمل التونسي" الناطقة بالفرنسية و الممثل بهذه الطبقة لجيل الشباب الجديد المثقف خطابا منهجيا شرح فيه الأسباب الداعية إلى التجمع و أهدافه. و قد لخص خطابه هذا في مقال أصدره في جريدة "العمل التونسي" قال فيه : "منذ زمن قريب كان من أثر الحركة الواسعة التي أحدثناها في الأمة التونسية أن استغلت الأفكار بمسألة اتحاد كل المناضلين و كل الطاقات و كل قوى المقاومة الوطنية. و كان ذلك نداء صاخبا نابعا من أعماق البلاد التي لا تغفر لنخبتها أن تشتت جهودها من الأحداث الخطيرة التي جدت أثناء الأسابيع الأخيرة و خصوصا من عزم الحكومة على القضاء قضاء مبرما على الحركة الوطنية التونسية أن اقتنع أشد الناس تعنتا بضرورة قيا جبهة موحدة في وجه المساعي الخادعة التي يديرها أصحاب التفوق الذين أصبحوا في حيرة و ارتباك الحزب الحر الدستوري العظيم...  بما له من تنظيم عنيد، هو الجهاز الملائم تماما و القادر على الجمع و التوحيد بين كل النزاعات الوطنية التونسية بشرط العدول عن طرقه البالية و برنامج القديم الذي قد تجاوزته الأحداث أيما تجاوز و لم يعد يستجيب لتطلعات الشعب العميقة.

   و بعد ذلك قرر المؤتمر في نهاية أشغال ضم أعضاء هيئة تحرير جريدة "العمل التونسي" إلى الهيئة التنفيذية للحزب، و عم الدكتور محمود الماطرين و الحبيب بورقيبة، و الطاهر صفر، و محمد بورقيبة،   والبحري قيقة، و في هذا الظرف الذي تسيطر عليه أحداث أفريل 1933 التي لم تمض عليها إلا بضعة أسابيع تجاوبت و رؤية الحزب الجديدة أحسن تجاوب مع شعور الأغلبية الساحقة للمؤتمرين كما صادق المؤتمر في اليوم الأخير من أشغاله 13 ماي 1933 على ميثاق وطني جاء في ديباجته : "أن سياسة التظاهر مع فرنسا قد فشلت فشلا ذريعا بعد تجربة دامت سنوات طويلة". و أن الغاية التي يرمي إليها الحزب هي تحرير الشعب التونسي و منح البلاد قانونا منيعا قارا في شكل دستور يحمي الشخصية التونسية و يقر سيادة الشعب بواسطة :

• برلمان تونسي منتخب بالاقتراع العام يملك حق وضع جدول أعماله و له كامل التصرف في السلطة التشريعية.
• حكومة مسؤولة أمام هذا البرلمان و فصل السلطات التشريعية ، والتنفيذية و القضائية و تعميم العدالة التونسية على كل المقيمين بالقطر التونسي.
• الاعتراف بالحريات العامة لكافة التونسيين بدون تمييز.
• التعليم الإجباري للجميع.
• حماية الحياة الاقتصادية للبلاد .

    و بصفة عامة كل ما من شأنه أن ينقذ البلاد من الانهيار المادي و المعنوي أينما وجد و ضمان مكانتها بين الأمم المتحضرة. لاشك أن هذا الميثاق قد استوحي من المبادئ الدستورية التي ما انفك يطالب بها الحزب الدستوري غير أن تطبيقه يقضي خلافا لمطالب الدستور القديم .حتما إلى إعادة الوجود للشخصية و السيادة التونسية.من ذلك أن الميثاق الجديد لم يناد كسابقه بأحداث"مجلس تفاوضي مؤلف من ممثلي التونسيين و الفرنسيين على قاعدة التساوي ينتخبون بالاقتراع العام". بل برلمان تونسي يملك حق وضع جدول أعماله و له كامل التصرف في السلطة التشريعية. و إثر هذا المؤتمر ازداد نشاط الحركة الوطنية و ساد التضامن بين قادة الشعب فقررت السلطة الفرنسية إزاء هذا أن تتخذ تدابير صارمة لوقف تيار الحركة الوطنية، فصادرت من جهة قرارا خاص بإنشاء مقابر خاصة للمتجنسين التونسيين،  وبتاريخ 13 ماي 1933، أصدر المقيم الفرنسي قرارا يقضي على الحزب الدستوري          و تعطيل جريدة "العمل التونسي " و في 27 ماي 1933، اتخذ نفس المقيم العام إجراءات قمعية جديدة تمثلت في إصدار الأمر الأثيم « secret scélérant » يقضي باتفاق نشر الصحف التونسية المكتوبة بالفرنسية مثلما سبق بالنسبة للصحف المكتوبة بالصحف العربية  و لكن هذه الإجراءات لم توقف نشاط الحركة الوطنية التونسية و بالخصوص نشاط الحزب الدستوري إذ كان يرى الشعب في تأسيس مقابر خاصة بالمتجنسين انتصارا كبيرا سجله ضد الاستعمار إلى درجة أنصار المتجنسون المسلمون يطالبون بالرجوع إلى الجنسية التونسية. و في صيف 1933 طرحت من جديد على الساحة السياسية مشكلة دفن   التونسيين المتجنسين بعد فترة من الهدوء رغم تبني سلطات المحاكمة لمبدأ إنشاء مقابر خاصة و في 7 أوت 1933 اعترض سكان المنستير على دفن الطفل الصغير، وهو ابن لتونسي متجنس بالمقبرة الإسلامية، و عندما أخبر قايد" المنستير المراقب المدني بسوسة بالحادثة، أرسلت قوات من الجيش الفرنسي و أطلقت الرصاص على جميع المتظاهرين فقتلت أحدهم وهو المسمى شعبان بن صالح البحوري، و جرحت ثمانية عشر آخرين، و تم زيادة على ذلك إيقاف خمسين من المتظاهرين.و قد أحدث هذا القمع الدموي، و في نفس الوقت تراجع السلطات الاستعمارية و كأنها تخلت عن مبدأ المقابر الخاصة، مظاهرات تضامنية مع سكان المنستير، قامت بالمدينة و سوسة والساحلين في هذه الأثناء تزايدت ضغوطات المستوطنين الفرنسيين على إدارة الحماية مطالبة مانصرون و تعويضه بمرسال بيرطون « Marcel Peyraiton » أحد ولاة المستعمرات بإفريقيا الغربية. و قد وصل هذا المقيم العام الجديد يوم 8 أوت 1933، و وجد الوضع في البلاد ينذر بالانفجار، ذلك أن مشكلة المتجنسين لم تحظ بتسوية نهائية. حيث تعرض تطبيق القرار الذي يرمي إلى إحداث مقابر خاصة للمتجنسين لبعض الصعوبات، فحاول بعض المتجنسين دفن موتاهم بمقابر المسلمين بدعم من السلطات المحلية فأثارت تلك المحاولات مظاهرات إحتجاجية من قبل الجماهير التونسية و قد حاول هذا الأخير منذ مجيئه إيجاد حلول عاجلة كتلك التناقضات المستجدة و التي جعلت من الرأي العام بصفة عامة و النخبة الوطنية بصفة خاصة تصبح في عداء صريح مع الإدارة و الحكومة حسب اعتراف المقيم العام نفسه "بيرطون" فجاء بالإصلاحات السريعة مثل الإصلاح الإداري، الميزانية الجديدة، الإصلاح الاقتصادي، القانون الانتخابي...إلخ لكن الوضع العام لم يتحسن لأنه كان في حاجة إلى حلول جذرية و ليس حلول سطحية ترقيعية فقط. و من جهة فإن الوضع العام الداخلي للحركة الوطنية التونسية قد زاد في التعقيد و التصدع بالرغم من المؤتمر الذي عقده الحزب الدستوري في شهر ماي 1933 و الوحدة المؤقتة التي حققتها الحزب في صفوفه. أما الكفاح الوطني فقد عرف تطورا هائلا خاصة بعد ظهور الحزب الدستوري التونسي الجديد المتمخض عن مؤتمر قصر هلال الشهير في شهر مارس 1934، و انقسام الحزب الدستوري التونسي إلى تيارين متصارعين، تيار الحزب الحر الدستوري التونسي القديم، و تيار الحزب الدستوري التونسي الجديد.لقد كانت مظاهرات 7 أوت 1933 بالمنستير ضد دفن أحد المتجنسين من التونسيين في المقابر الإسلامية. و المظاهرات التضامنية معها التي حدثت أيام 09،10،12 أوت 1933 في عهد المقيم العام الجديد مارسيل بيروطون هي بداية التصدع بين قادة الحزب الدستوري لأنها كشفت عن المواقف الحقيقية لكل طرف نجاه في هذه القضية، إذ رأت جماعة جريدة "العمل التونسي" بزعامة الحبيب بورقيبة في مواقف بقية أعضاء اللجنة التنفيذية بأنها مواقف لا تخدم القضية التونسية فهي مواقف متخاذلة. لا تتسم بالحنكة و الدبلوماسية. بداية الصراع و طبيعته : كان أول سبب مباشر لهذا التصدع و الانشقاق قد تمثل في تزعم المحامي الشاب الحبيب بورقيبة يوم 4 سبتمبر 1933 وفدا من المنستير يشكو إلى الباي القمع الذي سلط على السكان يوم 7 أوت و تصرفات "القايد" و بما أن بورقيبة لم يحط اللجنة التنفيذية للحزب علمها بهذه الزيارة، فقد استاءت اللجنة من ذلك و وجهت إليه توبيخا رفضه بحق، و بهذا الخصوص يقول محمود الماطري :"وقد كنا شاعرين و الحق يقال أن أعضاء اللجنة التنفيذية القدماء كانوا يبحثون عن خصومة معه بلا موجب". ثم يضيف محمود الماطري : " وفي يوم 9 سبتمبر 1933 قدم الحبيب بورقيبة استقالته من الحزب و قد استأنا حقا من الإجراء المتخذ دون مبرر، فانسحبنا جميعا من اللجنة التنفيذية في شهر نوفمبر 1933" وعن هذه الاستقالة يقول الحبيب بورقيبة نفسه:" وأدركت عندما علمت بلائحة اللوم ضدي أي القصد من إدخالي لعضوية اللجنة التنفيذية       هو وضع وثاق يشدني و إقامة العراقيل في وجهي للحيلولة دون قيامي بأي عمل حتى ولوكانت المشاركة في وفد".

   وأعلنت جماعة اللجنة التنفيذية إني في غنى عن الشرف الذي منحوني إياه باللحاق بهم و قدمت استقالتي من اللجنة يوم 09 سبتمبر 1933، و فكر محمود الماطري و بعض الأعضاء في الاستقالة أيضا فعارضتهم بحجة أن لاستقالتي سببا و أن لاستقالتي سببا و أن من الأصلح بقائهم فيها عليهم يفيدون القضية الوطنية، خاصة و المقيم العام الجديد أخذ يجس نبض الحركة الوطنية و طلب مقابلة وفد من اللجنة التنفيذية في المرسى ".

   و فعلا ففي شهر أكتوبر 1933 استقبل بيروطون وفدا دستوريا ضم أحمد الصافي و صالح فرحات   و محي الدين القلبيي و علي بوحاجب و المنصف المتبري و البحري قيقة، أما محمود الماطري فقد غاب عن هذا اللقاء هو لكي يبدي بيروطون حسن نواياه أمام هذا الوفد.

لكن الحبيب يذكر في هذا الشأن أن المقيم العام استقبلهم بفطرة شديدة كعادته و بث في قلوبهم الرعب مستنكرا ما حصل من الاضطرابات في البلاد و قال لهم أن فرنسا لن تتحمل اضطرابات جديدة، ثم روى ما ذكره له البحري قيقة أحد أعضاء الوفد كالتالي :" أن أحد أعضاء الوفد خاطب المقيم بقوله : " سيدي المقيم العام لنا نحن القائمين بالتشويه بل حصل بعض الاكتتاب من جراء ما قرره المؤتمر من إدخال جماعة من الشبان في اللجنة التنفيذية، و إنما المتسبب في التشويش هو بورقيبة " و بعد خروج الوفد من الاتفاق العام بالمرسى مساء في حالة يرثى لها من الهلع و الخوف أقسم الجماعة وضعين أيديهم على المصحف الشريف أن تبقى المقابلة سرا بينهم، إلا البحري قيقة فإنه لم يقسم و ذهب في حال سبيله، و أعلم بورقيبة بما جرى .

و في اليوم الموالي استاءت كثيرا شعب الحزب من إقدام اللجنة التنفيذية على القول للمقيم العام أن جماعة العمل التونسي هي السبب و أن بورقيبة هو المحرك لأعمال التشويش و الداعي لها، و حصلت ضجة في أوساط الجزب و رأت اللجنة التنفيذية أن السبيل الوحيد للقضاء على تلك الضجة هو محاكمة البحري قيقة  و طرده من الحزب و منع الإتصال به .

و قد ذكر رجال اللجنة التنفيذية أن السر الذي أفشاه البحري قيقة يتعلق بما أعلن عنه المقيم العام من استعداد للتخفيض من المنح التي يتمتع به الفرنسيون في تونس و منها منحه الثلث الاستعماري،        و جابهم البحري قيقة بأن السر في الحقيقة هو استنكارهم أمام المقيم العام لعمل جماعة العمل التونسي و انطلاقا من موضوع هذا السر بدأ الخلاف يتوسع بين الطرفين و أصيب أعضاء الشعب الدستوري بالحيرة و في يوم 17 نوفمبر 1933 أحمد الصافي و أصحابه برد فعل على هذه الحملة و قرروا شطب اسم البحري قيقة من حزب الدستور بتهمة إفشاء أسرار اللجنة التنفيذية للحزب و هي عملية من شأنها الإضرار بمصالح الحزب و الأمة معا و إحداثه الشقاق في صلب الحزب و ذلك بالقدح في سياسة لدى البعض من أعضاء الشعب لإبعادهم عن الحزب، و السعي بذلك إلى تأسيس حزب آخر مواز للحزب الموجود من قبل و هو ما يشكل عقبة في طريق الحركة و يشتت وحدة الأمة السياسية و احتجاجا على ذلك قدم أصحاب قيقة السياسيون (محمود الماطري و الطاهر صقر و محمد بورقيبة استقالتهم من اللجنة التنفيذية التي كان موقفها تجاه السلطات شديد الضعف بينما كان عملها على إحداث الانشقاق كبيرا بين المناضلين ، و بهذه الاستقالة تأكد نهائيا أمر لتطيق بين قادة الحزب الدستوري القدماء و الجدد، فاندلعت عندئذ معركة لا هوادة فيها بين النزعتين تحاول كل نزعة جلب القاعدة و الحزب إلى جانبها. و بقي أحمد الصافي و أصحابه وحدهم في اللجنة التنفيذية، فشنوا حملة عنيفة لتبرير موقفهم لدى الشعب الدستورية  و تحذيرها من تصرفات البعض من العناصر المطرودة أو المستقلة من الحزب و التي لم تبق لها أية صفة للتحدث باسمه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الرابعة: مؤتمر قصر هلال و ظهور الحزب الدستوري التونسي الجديد.

بعد التصدع والانشقاق الذي قسم ظهر الحزب الحر الدستوري إلى شقين متنازعين ذهب كل طرف ينشط من جهته لإقناع أكبر عدد ممكن من الشعب الدستورية بصحة آرائه و توجهاته لكسبها إلى جانبه . و من ذلك نجد أن الأمين العام للحزب الدستوري أحمد الصافي يرسل في 18 نوفمبر 1933 منشورا إلى رؤساء مختلف الشعب لإعلامهم باستقالة الحبيب بورقيبة من اللجنة التنفيذية و طرد البحري قيقة من الحزب مضيفا أن الأول " قد فقد كل حق في الإطلاع على أنشطة الحزب إلا بوصفه مجرد عضو في الحزب " و أن الثاني" لم يعد له صفة الدستوري التي تخول له الدخول إلى محلات لحزب أو إقامة علاقات سياسية مع أعضائه المطالبين بدورهم بعدم إطلاعه على قرارتهم " و واصلت اللجنة التنفيذية حملتها في صحيفة " الإدارة" التي سمح لها بالصدور في بداية 1934 و التي طالبت في عددها الأول لمناضلين على وجه الخصوص بالانضباط المطلق لتنفيذ قرارات الحزب و تعليماته .

و من جهته شن الحبيب بورقيبة و أصحابه داخل قاعدة الحزب حملة شديدة ضد قدماء اللجنة التنفيذية       و آخذوهم على انتهاك قرارات مؤتمر نهج الجبل المنعقد أيام 12، 13 ماي 1933 و طعنوا في طرق عملهم و اتهموهم بالتراضي و العجز و الاستبداد.

         وأكثر من ذلك فإن الحبيب بورقيبة كان قد وجه انتقادا لاذعا إلى الحزب الدستوري القديم قال فيـه :" والخلاصة إن الحزب الدستوري القديم كان جزء من مسرحية الحماية، فقد كان هناك باي و وزراء مثقفون بالناشيين، و حزب معارضة له مطالب ينادي بها ! أما السلطة الحقيقية فقد كانت بيد المقيم العام الفرنسي والكاتب العام والمراقبين المدنيين وضباط مكاتب الشؤون الأهلية بالجنوب وجميعهم فرنسيون".

   كما شرح بورقيبة و أصحابه في منشور وجهوه إلى الشعب الدستورية جذور خلافهم مع زعماء الحزب القدامى ولم تكتف جماعة بورقيبة بهذا فقط بل شرع كل من بورقيبة و الطاهر صفر في جولة بالساحل شرحا خلالها موقف جماعتهم تجاه اللجنة التنفيذية و تمكنا في 03 جانفي 1934 بشيء من الصعوبة من إقناع أعضاء شعبه قصر هلال بوجاهة هذا الموقف . و قال حينها بورقيبة أنه أدرك بهذه المناسبة فضائل الاتصال المباشر لتلقين الجماهير الشعبية قيما جديدة و دفعها لمقاومة أنجع للنظام الاستعماري.

   و للتعبير عن تضامنهم مع سكان المنستير و مساندتهم لكل عمل جماهيري نضموا "جماعة العمل التونسي " فظاهرة قرب ضريح شعبان بن صالح البحوري الذي قتل أثناء أحداث 07 أوت 1933 مكرسين أياه بطلا و شهيدا للحركة الوطنية التونسية . و هكذا تمكن الحبيب بورقيبة و أصحابه أن يكسبوا لقضيتهم العديد من الشعب الدستورية التي اقترحت على اللجنة التنفيذية، أنه من أجل الحفاظ على وحدة الحزب و تجنب أي انقسام، إما إنهاء هذا الخلاف ثم الاتحاد أو تنظيم مؤتمر لمعرفة رأي الأغلبية .

   و في نهاية شهر جانفي 1934 وقع اجتماع دستوري لبعض الشعب بتونس العاصمة استدعى إليه الأعضاء المنشقون عن الحزب، و ابتدأ الطاهر صفر الإجتماع بخطاب بين فيه أن أعضاء اللجنة التنفيذية لا يريدون السير بالحزب في المنهاج الذي اختارته له الأمة في مؤتمر نهج الجبل عام 1933، ثم تلاه الحبيب بورقيبة و شرح للمجتمعين سبب تقديم استقالته و بيّن تعاطف المثقفين مع الشعب        و تلبية إرادة الأمة قائلا : " كانوا يشاركون الأمة في المظاهرات يصادمهم البوليس، و كانوا ينظرون إلى تلك الدبابات... تمر أمام أعينهم " بينما كانت الجمعة القديمة منزوية في بيوتها . فتحمس الحاضرون إلى هذه العبارات و هتفوا بحياة بحياة (بحياة أولاد بورقيبة، و الماطري و صفر، و قيقة ) و سقوط الخونة و الدجالين .

و من جهتهم لجأ أعضاء اللجنة التنفيذية القدامي إلى عدة حجج لتشويه سمعة و صورة جماعة بورقيبة أمام الشعب الدستورية مستغلين في ذلك الآية الكريمة : " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ".

                                                               صدق الله العظيم، الحجرات، الآية 14

غير أن حجة منع جماعة العمل التونسي -باعتبارهم مستقلين من الحزب- من التحدث باسمه ما كانت لتقنع العديد من المناضلين الذين كانوا في شهر ماي 1933 قد أوصلوهم إلى اللجنة التنفيذية. و يرى العديد  من المناضلين أن الخلاف بين أعضاء القيادة لا يمكن حسنه إلا في نطاق المؤتمر الذي هو الهيئة العليا  للحزب.

و من الملاحظ أن النقاش الذي شغف المناضلين أنداك لم يمس المباديء و الأهداف الإستراتيجية للحزب من الناحية النظرية أو من الناحية السياسية فهو لم يشكل من الناحية التاريخية إعادة نظرية استراتيجية الأهداف أو صيغ العمل النضالي، التي وقع إقرارها في مؤتمر نهج الجبل بل إن النقاشات دارت حول الحياة الداخلية للحزب و ركودها و أسرارها و جوانبها المظلمة المرتكزة على المحظوظية و المحوبية و التقرب و المجاملة و علاقات العائلات، و الألعاب ... و ما ينجر عن ذلك من تعفن الأطر و عدم تسلحهم للقيام بمهامهم النضالية و الحزبية ، و كانت موجة النقد الموجهة ضد اللجنة التنفيذية تخص روح الامتيازات و أساليب النضال العتيقة و غير المجدية، وبعد القيادة عن القاعدة الحزبية و الشعبية التي جعلت الحزب منبرا للحصول على مراتب اجتماعية أو مهنية دون تحويله إلى أداة نضال، لكن اللجنة التنفيذية تصرفت تجاه نقمة المواطنين بتكبر و امتعاض غير لائقين بأخلاقية العمل السياسي و النضال الوطني، في حين عمد الفريق الثاني إلى الاتصال المباشر مع القواعد الحزبية       و الشعبية و فتح أفق تجاوز تلك الحالة بالانفتاح على المبادرات القاعدية و التوجه نحو الممارسة العملية و النشيطة التي تضمن حيوية الحزب و قابليته للتأثر و التأثير على شؤون البلاد.

   في هذه الظروف، و رغم معارضة زعماء الدستور القدامى كان الوضع ملائما لعقد مؤتمر وطني فوق العادة، و كان أن تشكلت إذاك جماعة العمل التونسي في شكل لجنة مؤقتة و أوكلت لنفسها مهمة الإعداد لعقد هذا المؤتمر يوم 2 مارس 1934 بقصر هلال وكانت الدعوى الموجهة إلى الشعب الدستورية و كذلك إلى كافة أعضاء اللجنة التنفيذية تحتوي على التالي : " بناء على طلب أغلبية شعب الحزب عقد مؤتمر فوق العادة لحسم الخلاف الذي حدث داخل اللجنة التنفيذية في شان تطبيق البرنامج السياسي الذي قرره المؤتمر الأخير و أساليب العمل و صياغة نظام داخلي يكفل حياة الحزب و نجاح القضية التونسية، فقد قررت اللجنة الوقتية استدعاءكم لحضور هذا المؤتمر فوق العادة الذي سينعقد فوق مدينة قصر هلال على الساعة التاسعة صباحا من يوم  الجمعة الأول ذو القعدة سنة 1953 الموافق لـ الثاني من مارس و المرغوب أن تبعثوا نائبا عنكم و تسلموه نيابة بإمضاء لجنة شعبتكم ليدلي بها عند الطلب" .و في اليوم المحدد انعقد مؤتمر قصر هلال في دار أحمد عياد و كانت له أهمية بالغة حسب وجهة نظر محمود الماطري الذي يقول عنه : " لذلك حرصت كل الحرص على حضوره رغم أني كنت مريضا ، حيث أجريت عليّ عملية جراحية لالتهاب حاد في فخذي يومين قبل ذلك.

   و قد حضر المؤتمر ممثلون عن حوالي خمسين شعبة دستورية معضمهم من العناصر الشابة، ولم يساهم في المؤتمر رئيس شعبة قصر هلال محمد بوزويتة الذي ظل مترددا و لكنه بقي على اتصال غير مباشر مع المؤتمرين، كما لم يحضر أي عضو من أعضاء اللجنة التنفيذية، رغم دعوتهم جميعا دعوة رسمية و كان محي الدين القليبي موجودا في المنطقة منذ بضعة أيام.

    و كان أهم ما ألقي في المؤتمر خطابين اثنين: الأول ألقاه الطاهر صفر في الجلسة الصباحية،     و الثاني ألقاه الحبيب بورقيبة في الجلسة المسائية، كما تناول الكلمة عدد كبير من  المناضلين للتنديد بتقاعس اللجنة التنفيذية، و التشهير بما عمدت إليه من أساليب عدائية قصد تشويه سمعة وطنيين شباب التحقوا بالحزب جهودهم إلى جهود إخوانهم الحزبيين السابقين. ثم صادق المؤتمر على لائحتين : الأولى قدمها الحبيب بوقطفة نائب شعبة بنزرت للتنديد باللجنة التنفيذية، و الثانية قدمها الحبيب بورقيبة للمطالبة بطرد أعضاء اللجنة التنفيذية من الحزب، وبعد ذلك قرر المؤتمر تعويض اللجنة التنفيذية بهيئة أخرى أطلق عليها اسم "الديوان السياسي" مؤلفة من: محمود الماطري رئيسا، الحبيب بورقيبة كاتبا عاما، الطاهر صفر كاتبا عاما مساعدا، محمد بورقيبة أمين مال، البحري قيقة أمين مال مساعد.

   وفي الأخير انتخب المؤتمر مجلسا وطنيا يضم عشرين عضوا و هم : محمد بوزويتة ، الحبيب بوقطفة، الطاهر الراشدي، البشير بن فضل، الشاذلي عطاء الله، محمد الجلاصي، محمد بعيزيق ، الشاذلي قلالة، الهادي شاكر، محمد قلنزة، يوسف الرويسي ، محمد الجربوعي، عبد المجيد بن ذياب، صالح شعبان لعجيمي، محمد الجعايبي، الطاهر بوتورية ، صالح العباسي، محمد بنور، جلول بو لعوالي،  بلحسن جراد ، خمسة عشر عضو من هذا المجلس يمثلون داخل الأيالة، و الخمسة الآخرين يمثلون تونس العاصمة. كما أوكلت لهذا المجلس مهمة مراقبة عمل الديوان السياسي لمنعه من التسلط          و الاستبداد، كما أعد المؤتمرون مشروع نظام داخلي لضبط المسؤوليات و تجنب العودة إلى التجاوزات السابقة ليعرض على المؤتمر القادم بعد تسجيل ملاحظات الشعب عليه وبطبيعة الحال فإن اللجنة التنفيذية لم تعترف بالقرارات التي أصدرها مؤتمر قصر هلال واعتبرت نفسها هي الممثل الشرعي        و الوحيد للحزب الدستوري .

و كرد فعل سريع عقد أعضاءها مؤتمرا بتونس يوم : 26 أفريل 1934 و انتخبوا أعضاء جددا في اللجنة التنفيذية مكان المنشقين، و هم أحمد توفيق المدني و الشيخ الطيب رضوان، محمد بن ميلاد.           و الهادي بن فرج، و الهادي الزبيدي . و أذاع  الحزب بيانا بيّن فيه أنه لم يتنازل عن أي مطلب من مطالبه و أكد على السير بالبلاد نحو الاستقلال، و هو الهدف الأسمى للحزب، و ركز على البرنامج السياسي الذي سطره مؤتمر نهج الجبل و تمسك بجميع الإصلاحات التي من شأنها أن تنقذ البلاد من الحالة السيئة التي انغمست فيها، و يضمن لها مكانتها بين الأمم الحرة المتطورة ، لكن في الواقع لم يكن هذا الإجراء سواء حفظا لماء الوجه لأن الأيام أثبتت عكس ذلك و منذ ذلك الحين أصبح بالبلاد التونسية تنظيمان ينتمي كلاهما إلى الحزب الدستوري، اللجنة التنفيذية و الديوان السياسي، و للتمييز بينهما أطلق الملاحظون الأجانب على الأولى اسم الدستور القديم و على الثاني اسم الدستور الجديد و في الواقع فإن الخلاف الوحيد بين الطرفين كان متصلا بأساليب العمل، و ماعدا  ذلك فليس هناك فرق كبير بين التنظيمين.

   و كتعبير عن فرحته بسياسة الحزب الدستوري الجديد الجديدة و تأييدا لها قام المقيم العام في بداية شهر ماي 1934 بزيارة مدينة المنستير و الساحل التونسي و استدعى الحبيب بورقيبة و جماعة و أخبرهم أن الإقامة العامة قد رخصت لهم إخراج جريدتين بالعربية و الفرنسية للتعبير على لسان حزبهم و نشر مبادئه . و تحمل الجريدة العربية اسم " العمل " و الجريدة الفرنسية " العمل الحر L’action libre " و قد تمكن الحزب الجديد بفضل ذلك من بث أفكاره و آرائه، و كانت تلك هيبة و هدية من المقيم العام لنشر أفكار الحزب و مبادئه، و لم تكن الصحافة هي الوسيلة الوحيدة التي نشر بها الحزب الجديد دعايته بل نشرها أيضا عن طريق الجولات التي كان يقوم بها أفراده لمواجهة أعمال اللجنة التنفيذية . و هكذا فعوضا أن يبدوا قادة الحزب الدستوري – قد ماء و جدد – سهامهم إلى صدر الاستعمار الفرنسي، سددوها تجاه بعضهم البعض و طعنوا الشعب التونسي في وحدته و انتقلت الحرب إلى صفوف أبناء الحزب .

    لكن سياسة المقيم العام مع الحزب الجديد سرعان ما تغيرت لمجرد أن أدرك خطورة هذه الحركة على الاستعمار الفرنسي، و بالتالي قرر القضاء عليها، فألقى القبض على قادة الحركة و على أبرز قادتها في 03 سبتمبر 1934 و اعتقلهم ببرج القصيرة في صحراء الجنوب الفرنسي و كان من بين هؤلاء : الحبيب بورقيبة، يوسف الرويسي، الحبيب بوقطفة، الهادي شاكر و صالح بن يوسف و غيرهم من أقطاب الحركة الوطنية التونسية أما  محمود الماطري فاعتقل في بن قردان على الحدود الشرقية التونسية   الليبية .

   و ما كاد خبر اعتقال قادة الحزب ينتشر حتى عمت الاضطرابات كامل البلاد فأعلنت الإضرابات    و توالت المواجهات بين الشعب و القوات المسلحة الفرنسية خاصة في بلدات مدنين و قصر هلال      و طبرقة و البرجين و نفطة و منزل تميم فكانت هذه الاضطرابات بداية عهد اضطهاد عنيف لم يسبق له مثيل دام سنتين متتاليتين بلا انقطاع .

   و كلما زاد تعنت السلطة الفرنسية اشتد رد الفعل من الشعب و ازدادت مقاومته، و كانت الاعتقالات مستمرة في صفوف الرجال العاملين طيلة هذه المدة . لكن السلطة الفرنسية في آخر الأمر رأت أبد سياستها هاته المرتكزة على استعمال القوة و العنف قد منيت بالفشل، خصوما وقد اشتد الضغط على المقيم العام  " بيروطون" من طرف هيئة الحزب التي كانت تعمل في باريس تحت زعامة سليمان بن سليمان بمساعدة أحزاب اليسار الفرنسية .

   و أمام هذا الضغط لجأت الحكومة الفرنسية إلى انتهاج سياسة جديدة في تونس و أقدمت على تعويض المقيم العام بيروطون بشخصية أخرى هي شخصية " جيون Guillon" في شهر أفريل 1936. الذي بادر بإطلاق سراح المعتقلين و أباح الحريات العامة، و كان انفراج الأزمة بعدما عانت الحركة الوطنية التونسية من اضطهاد عنيف يعتبر انتصارا عظيما سجله الحزب الجديد . و باعتا على سرعة انتشار الوعي القومي من جديد، فتمكن الحزب من استكمال تنظيم صفوفه على أسس الديمقراطية بعد أن تعطل مدة سنتين، فانتشرت الشعب الدستورية بسرعة كبيرة في كامل التراب التونسي، كما تكونت شبيبة للحزب في كل المراكز ، و كثرت جمعيات الكشافة و تأسست النقابات الوطنية الحرة، حتى أصبح الشعب كله تقريبا متكتلا في تنظيمات الحزب .

   في هذه الظروف تقلدت الجبهة الشعبية الحكم في فرنسا فبعث هذا الحدث الأمل في نفوس الشعب التونسي ، ورأى الحزب الجديد أن يسلك سياسة التفاهم مع فرنسا في عهد هذه الحكومة اليسارية المعروف عليها مناصرتها للشعوب المستعمرة  فأوفد الحزب الجديد أمنية العام الزعيم الحبيب بورقيبة إلى باريس مرات عديدة خلال سنتي 1936 –1937 للتفاهم مع الحكومة الفرنسية و الدوائر الرسمية         و إقناعها بوجهة نظر الوطنيين من وجوب إرضاء رغبات الشعب التونسين قد سلك الحزب آنداك سياسة مناورة جديدة تقوم على المطالبة بإصلاحات مستعجلة، كمرحلة أولى في سبيل تحقيق أهداف الحزب الأصلية التي ترجي إلى استقلال البلاد و سياستها، على أن يكون الوصول إلى هذه الأهداف على مراحل، و في مقدمتها احترام المعاهدات التي خرقتها فرنسا منذ فرض الحماية، و تنفيذ ما التزمت به من السير بالشعب في طريق الرقي، و إعداده لتسيير نفسه بنفسه .

   و قد قدم الحزب إلى الحكومة الجبهة الشعبية في فرنسا مشروع مطالبة المستعجلة، الذي يقوم على منح الشعب التونسي برلمانا و حكومة مسؤولة أمامه .

   لكن حكومة الجبهة الشعبية هي الأخرى خيبت الظن بأن سلكت نفس السياسة التي سلكتها الحكومات الفرنسية التي سبقتها على اختلاف ألوانها السياسية، و هي سياسة إعطاء الوعود التي لا تنفذ و لا يقصد منها غير تخليد الشعب و ربح الوقت . و أول إجراء قامت به هو إرسالها للوزير " بيير فينو Pierre Vienot" إلى تونس الذي أعلن يعد دراسة الحالة هناك وجوب إصلاح الإدارة التونسية و تشريك التونسيين في غدارة شؤون بلادهم .

   و هذا التصريح هو سياسي أكثر منه عملي لأنه من جهة لا يلبي طموحات الشعب التونسي         و رغبته في تسيير كامل شؤونه . و من جهة أخرى أنه لم يسجد على أرض الواقع . لأن السياسة الفرنسية لم يطرأ عليها أي تغيير لأن خطة فرنسا الاستعمارية لا تتأثر بتغيير الحكومات .

   و في هذه الأثناء قام العمال التونسيون بإضرابات عامة من أجل المطالبة بحقوقهم النقابية فقاومت السلطة الفرنسية حركة العمال مقاومة شديدة و عنيفة تسببت في حوادث دامية أسفرت عن عشرات القتلى  و مئات الجرحى في مناجم المتلوي، و أم العرايس، و المظيلة، و الجبل الأبيض، و المتلين.

    و لما رأى الحزب أن سياسة التفاهم هذه لا تجدي نفعا دعا إلى عقد مؤتمر في شهر أكتوبر 1937 الذي اتخذ قرارات هامة ترمي إلى تنظيم خطة للمقاومة و مواجهة العنف بالعنف خاصة و أن فرنسا في هذه الفترة قد صممت على القضاء على الحركات الوطنية ليس في تونس فحسب بل و في جميع أقطار المغرب العربي، إذ لم يمض وقت قليل حتى بدأت الإضطهادات العنيفة في كل من مراكش و الجزائر . فرأى الحزب أن يتضامن عندئذ مع الحركة الوطنية في مراكش و الجزائر، و قرر الإضراب العام في نوفمبر 1937 ، و على الصعيد الداخلي للحزب الدستوري فإن الصراع الداخلي ما زال ينخر جسم هذا الحزب حتى أن عودة الزعيم الروحي عبد العزيز الثعالبي إلى تونس و ما يمثله من وزن معنوي و سياسي و فكري و محاولته الرأب الصرع من خلال عمله الدؤوب و المغني و الاجتماعات الماراطونية مع شقي الحزب – اللجنة التنفيذية و الديوان السياسي – و اللجان المختلفة التي شكلها لحسم هذا النزاع و التي ضمت شخصيات دينية و سياسية و ثقافية لها وزنها و مكانتها لدى الأمة العربية و الإسلامية من طراز الشيخ الجليل عبد الحميد بن باديس و الشيخ أحمد توفيق المدني، فإن هذه المساعي لم تجدي نفعا لتصلب رأي الفريقين و استمرت الأزمة مع بروز ميدانيا الحزب الجديد الذي أصبح المحرك الفعلي لمختلف الأنشطة السياسية و الاجتماعية التي أفرزها الصراع الحزبي منذ 1934 و فشل الشيخ عبد العزيز الثعالبي في مهمة توحيد الحزبين القديم و الجديد و أختار تبني مواقف رفاقه القدامى منذ جماعة الحزب الجديد الذين سمحت لهم الظروف السياسية منذ بداية الثلاثينات تبنوا مبادئ و أهداف سياسية لم يتمكن الثعالبي فرضها عند تأسيسه للحزب، لذلك اعتبر الشيخ الثعالبي التجديد الذي قام فريق الديوان السياسي تراجعا إلى الوراء على صعيد المبادئ حيث تبنى الحزب الجديد مفاهيم الاستقلال التونسي التي يتعارض معها الشيخ الثعالبي بشكل مطلق، لأن الحبيب بورقيبة قد حدد في المؤتمر الثاني للحزب الدستوري الجديد مسألة الاستقلال كمايلي : " الاستقلال لن يتحقق إلا بإحدى الصيغ الثلاث التالية : ثورة شعبية عنيفة و عامة تصفي الاستعمار،أو هزيمة عسكرية فرنسية في حرب ضد أخرى، أو حل سلمي يقع عبر مراحل بإعانة فرنسا و تأطيرها و إشرافها " و يوظف بورقيبة شرح موقفه قائلا : " إن اختلال موازين القوى بين الشعب التونسي و فرنسا، ينسق كل حظوظ القدرة الشعبية من ناحية ثم إن هزيمة فرنسا العسكرية لن تعين على استقلال البلاد لأننا سوف نسقط في مخالب استعمار جديد ... فلن يبق لنا سوى طريق الإنعتاق السلمي تحت رعاية فرنسا "، تلك هي النظرة التحليلية التي رفضها الشيخ عبد العزيز الثعالبي و اعتبرها تراجعا سياسيا لأهداف النضال الوطني، و قادة هذا الموقف إلى مناهضة كل المبادرات و النضالات التي خاضها و قادها الحزب الدستوري الجديد بما في ذلك انتفاضة أفريل 1938 و يدل هذا التضامن على مدى قوة الحزب الدستوري و متانة اتصاله بالفئات الشعبية في الشمال والجنوب من جهة و مدى تمكنه من توجيه الشعب نحو أهدافه و تربيته على معاداة سلطة الحماية من جهة أخرى. كما يدل أيضا على صدق روح الشعب و تعلقه بجامع الزيتونة الأعظم.وكان جل شيوخ          و تلامذة الجامع الأعظم دستوريين حتى أن سلطة الحماية اعتبرته "معقل الوطنية، و رمز الشعور الديني"و قد كان لجامع الزيتونة أهمية كبيرة فعلا في نفوس التونسيين خاصة و المسلمين الذين ترددوا عليه عامة. فكان له الأثر البليغ في صقل شعورهم الوطني، و طبع نفوسهم بطابعه الثقافي الإسلامي.  و كان شأنه مع الحزب الدستوري شأن جامع الأزهر مع الحزب الوطني. و لم تأت سنة 1933 على الحزب الدستوري حتى كان يضم جميع الشرائح الاجتماعية التونسية مع شيوخ جامع الزيتونة وطلبته،    و كذلك المثقفين، و المحامين، و أساتذة المدارس الحرة، و الموثقين، و الوكلاء، وكتاب المحاكم،       و الصناع، و التجار، و الفلاحين، و الحرفيين، و الملاك، والموظفين،و العمال،و سائقي السيارات.     و لعل ذلك ما أدى بالإدارة الفرنسية إلى القول : "إن الحزب الحر الدستوري كان بين سنوات 1924     و 1933، حزب الرجال المخلصين" و لعل أصدق شريحة التزمت بالمبادئ الوطنية الحقة هي شريحة الطلبة الزيتونيين الذين كانوا متعلقين تعلقا شديدا بالحزب الدستوري. و ذلك بحكم انتمائهم الاجتماعي،   و وضعهم الثقافي و بعد تصورهم الحضاري. أما الشرائح الأخرى، فرغم حسن إيمانها بالقضية الوطنية  و تعلقها بمبدأ الاستقلال، فإن مفهومها له يختلف، بحكم انتمائها الاجتماعي و مستوى ثقافتها و تصورها و مصالحها. و لعل خير من كان يعبر عن هذا المفهوم هم : الحزب الإصلاحي، و الحزب المستقل،   و الحزب الدستوري الجديد، التي سنتناولها فيما بعد.و قد عمل الدستوريون كأحمد الصافي، و صالح فرحات، و محي الدين القليبي، و غيرهم على تغذية الروح الوطنية و توجيه الشعب نحو المطالبة بالإصلاح السياسي، كإقامة مجلس تشريعي، و محاربة التجنس و الاندماج، و الإصلاح الثقافي كالتحريض على بناء المدارس الحرة باللغة العربية، و الإصلاح القضائي و الديني كالدفاع على القضاء الإسلامي و محاربة المسح الحضاري، و الإصلاح الاقتصادي كتشجيع المصنوعات الوطنية و الإقبال على الحرف التقليدية و الزراعية، و الإصلاح الاجتماعي كالمحافظة على القيم الخلقية و الدينية، و عدم تقليد الأوروبيين في تعاطي المحرمات كالخمر و الربا و غير ذلك. ولئن كان هؤلاء كلهم دور في دفع عجلة الحركة الوطنية إلى الأمام في جميع جوانبها، فإن الشيخ الثعالبي كان دوره هو الآخر في ذلك رغم غربته و أعماله في إطار الجامعة الإسلامية. فلقد كان له اتصال وثيق بالشعب الدستورية و الدستوريين. و كان يتبادل معها الرسائل في المناسبات و الأعياد الإسلامية. و نورد هنا رده على شعبة الحلفاويين و لنتعرف من خلاله على فكرة الاستقلال الحضاري الذي كان يعتقده الثعالبي و بناء على التاريخ و الدين و الوطن، و روح التضحية التي دعا إليها شعبة الحلفاويين في مطلع سنة 1933 بقوله : "أبنائي الأعزاء ليوث الكريهة...طلائع الحق الهضيم و أنصار القومية النبيلة... و خليق بكم أن ترسلوها شعلة توقد الجوانح فإما حياة طيبة و إما موت مريح...إن الحركة قدسية لا تموت. فسيروا على بركة الله...غير ناظرين إلا إلى الواجب الذي في أعناقكم للدين و التاريخ و الوطن فإن النكوب عنه انتحار شنيع و موت أبدي".

 

 

 

 

 

المحاضرة الخامسة: سياسة الحزب الدستوري برئاسة محمود الماطري .

    طبيعة المواجهة العنيفة التي قابلت بها السلطات الاستعمارية حركة الإضرابات العامة التي قام بها العمال التونسيون هي التي جعلت قادة الحزب الدستوري الجديد يعيدون النظر في سياسة الحزب و في طريقة تعاملهم مع إدارة الاحتلال، حيث رأوا أنه لابد من مؤتمر عام للحزب للنظر في مستجدات الأحداث و البحث عن استراتيجية جديدة لمواجهة تلك المستجدات، ثم شرع في التحضير لعقد هذا المؤتمر الذي تقرر أن يكون يوم 31أكتوبر 1937 ، وبخصوصه يذكر محمود الماطري في مذكراته أنه خلال الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر بدأت الوفود تتوالى على تونس العاصمة في أعداد غفيرة قادمة من جميع أنحاء البلاد و كان بعضهم منشغل البال و بالخصوص الشباب منهم الذين كانوا يعلقون على الوضع تعليقا حادا متحمسا و يميلون إلى الحلول القصوى ( أي إعلان الاستقلال و تنظيم مظاهرات جماهيرية و الامتناع عن دفع الضرائب و عن أداء الخدمة العسكرية ، بل حتى القيام بأعمال إرهابية ).

     و في صبيحة 31 أكتوبر افتتحت الجلسة بنادي الحزب بشارع التريبونال بحضور مئات المندوبين و الضيوف، و ألقى رئيس الحزب محمود المطاري كلمة رحب فيها بالمؤتمرين لفت فيها أنظارهم إلى ما يحظى به الحزب من إشعاع متزايد و ما له من تأثير متصاعد على إدارة الاحتلال، كما ندد بممارسات المستوطنين و المتواطئين مع الإدارة الاستعمارية ، كما حذر المناضلين من المظاهرات غير المنظمة و التصريحات الصاخبة التي لم يكتب لها أن تفضي إلا إلى ردود فعل انتقامية دون تقديم

 حلول .أما الحبيب بورقيبة من جانبه فقد ألقى خطابا جيدا واضحا تمام الوضوح و واقعيا غاية الواقعية  و محبوكا حبكا محكما ، خال من تلك الثرثرة الديماغوجية التي كانت كثيرا ما يركن إليها هذا الخطاب ابتهج له رئيس الحزب محمود المطاري و هنأ عليه بورقيبة بحرارة.

   و قد تخللت أشغال المؤتمر مناقشات كانت أحيانا حادة لاسيما داخل لجنة السياسة العامة و لجنة المالية حيث انتقد بشدة عدد  كبير من النواب في هاتين اللجنتين وضع ميزانية الحزب التي صارت منذ رجوع المبعدين من برج البوف تحت تصرف بورقيبة وحده رغم وجود أمين مال لأن هذا الأخير لم يعد يقوم إلا بدور صوري فقط ؟ واستمرت المناقشات الحادة حتى أثناء صياغة لائحة السياسة العامة و كانت نقاط الاختلاف تتمثل فيما يلي:

1- المطالبة بالاستقلال : هذا المطلب رأى فيه رئيس الحزب محمود الماطري أنه لأوانه و من الأهم التمسك بعبارة " التحرير" الواسعة المعنى لأن استعمال كلمة " الاستقلال" حسب رأيه من شأنه أن يغلق جميع أبواب النقاش مع السياسيين الفرنسيين لأنهم كانوا على اختلاف نزعاتهم لا يستسيغوا هذه الكلمة ، و أكثر من ذلك فقد هدد الماطري بالانسحاب من رئاسة الحزب في حالة إقرار هذا المطلب.

2- سحب توسم الخير من الحكومة الفرنسية : هذا الموقف سبق أن وضعه الحزب تجاه حكومة ليون بلوم الاشتراكية السابقة مع مواصلة الثقة في المقيم العام " أرمان ليون" ممثل نفس الحكومة لكنه هذه المرة رأى عدد كبير من نواب الحزب أنه غير مصيب و أنه يفضي إلى تناقض ، فلم يتم إقراره .

    و بمجرد انتهاء أشغال المؤتمر و عودة المندوبين إلى مناطقهم انتظمت في كل مكان اجتماعات عامة و كانت الخطب التي تلقى لا تبعث على التهدئة و كثيرا ما كانت توفر للسلطات الاستعمارية فرصة التدخل لتسميم الجو و من جهة أخرى كانت المقالات المنشورة في جريدة لعمل التونسي و لاسيما منها مقالات الحبيب بورقيبة تزداد تصعيدا كل يوم خاصة  و أن المؤتمر كان قد قرب مواصلة الكفاح بعد أن إتضح للمؤتمرين القوة التي أصبح عليها الحزب من خلال انتشار أفكاره و مبادئه و من خلال سلسلة الاجتماعات التي أصبح من الميسور عقدها ، حتى أن فرنسا أصبحت تستعد بحزم أكبر للقضاء على الحزب .

     و في هذه الفترة قامت السلطات الفرنسية بأعمال قمعية في كل من الجزائر و المغرب الأقصى ضد الوطنيين و النقابيين لكنها كانت ضعيفة فاعتقلت السلطات الاستعمارية عددا كبيرا منهم ، لكن بورقيبة   وصالح بن يوسف و سليمان بن سليمان و الهادي نويرة و الحبيب بوقطفة رأوا أنه من الضروري شن إضراب عام تضامني في تونس ، أما البحري قيقة و محمود الماطري فكانا ضد هذه المبادرة ، لأن هذا الإضراب في نظر الماطري في هذه الظروف لا يخدم القضية التونسية و لا القضية المغاربية .

    رغم رفض كل من رئيس الحزب الماطري و عضوا الديوان السياسي البحري قيقة لهذه المبادرة إلا أن الإضراب نظم حيث وقع يوم 20نوفمبر1937 لكنه لم يحقق نجاحا كبيرا ، وكان قد تسبب في اندلاع بعض الحوادث و اعتقال عدد من الوطنيين لاسيما في بنزت حيث سجل سقوط بعض الضحايا، و أصبحت البلاد يخيم عليها جـو مثقل بالتهديدات و صارت لهجة جريدة العمـل التونسي تحتد يومـا بعد يوم

و سعيا للتخفيف من هذا التصعيد سعى طالب رئيس الحزب محمود الماطري هيئة تحرير الجريدة بالاجتماع يوميا في مكتب الحبيب بورقيبة ،واشترط ألا تصدر أية مقالة دون موافقة أغلبية الحضور.

و في 24 ديسمبر 1937 حرر بورقيبة مقالا شديد اللهجة بعنوان " أ هذا عدم إدراك أم استخفاف " و كان يعزم نشره في الجريدة يوم 25ديسمبر 1937 و أطلع عليه الماطري فعارضه بشدة و قرر تغيير عنوانه لما فيه من تحامل على ممثل فرنسا ، كما قرر حذف فقرة أو فقرتين منه لكن المقال نشر بنفس العنوان و دون حذف أية فقرة ، فغضب الماطري لهذا المكر و اتصل ببورقيبة الذي أنكر أن  يكون له ضلع في ذلك و نسب الخطأ إلى سكرتير الجريدة الهادي نويرة ،و من هنا يبدأ الخلاف بين رئيس الحزب و أمينه العام ، حيث أعلم الماطري بورقيبة قائلا:" إن الديوان السياسي سوف يتلقى عما قريب استقالتي بصورة لا رجعة فيها هذه المرة".

في حقيقة الأمر إن الخلاف بين الرجلين – الماطري ، بورقيبة – كانت ملامحه قد بدأت منذ مؤتمر التريبونال و اتضحت من خلال توجيهات كل واحد إذ كان الماطري يميل إلى التهدئة مراعاة لظروف تلك الفترة بينما الحبيب بورقيبة كان يعمل على التصعيد الأمر الذي لم يطقه الماطري فقرر تقديم استقالته من رئاسة الحزب ، و يقول الماطري عن هذه الاستقالة :" إن استقالتي عوض أن تحمل قادة الحزب على التبصير ، فقد زادت في إثارتهم ، فاحتدت لهجة جريدة العمل أكثر فأكثر ، و تعددت الاجتماعات العامة و المظاهرات ، حيث كان الخطباء يدعون إلى الإضراب عن دفع الضرائب و الامتناع عن الخدمة العسكرية و استعمال الإرهاب والكفاح المسلح ... و لكن بأي سلاح؟" و منذ ذلك التاريخ بدأت السلطة الفرنسية تتربص برجال الحزب العملين و تنزل بهم أقسى أنواع العذاب ، كما منعت الاجتماعات العامة ، فازداد هيجان الشعب ، و لم يرضخ الحزب لهذا المنع و استمر يعقد الاجتماعات و ينظم المظاهرات الشعبية للاحتجاج على السلطة الفرنسية فأسفر ذلك عن اصطدامات بين الشعب و القوات الفرنسية المسلحة منذ أوائل سنة 1938، حيث سالت الدماء في عدة أماكن و خاصة في مدينة بنزرت .

   و إزاء هذه الحال اجتمع المجلس الوطني للحزب الجديد في شهر مارس 1938 و حدد موقفه النهائي من سياسة القمع التي انتهجتها فرنسا في كافة أنحاء البلاد ، وتوزع قادة الحزب لعقد الاجتماعات العامة لإعداد الشعب للصمود أمام هذه الموجة الاضطهادية ، فكانت السلطة الفرنسية تلقي عليهم القبض أثناء قيامهم بجولات دعائية ، فاعتقلت في 04 أفريل الدكتور سليمان بن سليمان والأستاذ يوسف الرويسي ، بعد أن منعت اجتماعات أراء عقدها في وادي مليز ، وعلى إثر ذلك قامت إضطرابات أفضيت إلى الاصطدام بين الشعب و القوات المسلحة الفرنسية فمات العشرات و جرح المئات من المواطنين.

   وفي يوم 06 أفريل تم اعتقال الأساتذة : صالح بن يوسف ،و الهادي نويرة ، و محمود بورقيبة ، أثناء قيامهم بجولة دعائية في منطقة الكاف .و هكذا قامت السلطات الفرنسية بحركة اعتقالات واسعة شملت جميع قادة الشعب . 

   لقد كان رد فعل الحزب عنيفا إزاء هذه الاعتقالات إذ قرر سلسلة من المظاهرات لا تنقطع في جميع أنحاء البلاد ، كما أصدر الحبيب بورقيبة الذي بقي طليقا الإذن بشن إضراب ابتدأ من يوم 08 أفريل 1938، و رغم الإنذار الذي وجهه المقيم العام بشتى الطرق و الوسائل ، فقد تم إقرار الإضراب         والمظاهرات .

 

  المحاضرة السادسة: مظاهرات الثامن أفريل 1938 وانعكاساتها على الحركة الوطنية التونسية.

 فقامت مظاهرات هائلة في كامل أنحاء القطر التونسي يوم 08 أفريل 1938 و تمت في هدوء تام      و قد ظهرت فيها قوة الحزب الجبارة و نظامه العنيد و تكتل الشعب حوله .

   و إزاء هذه الحال قررت السلطة الفرنسية القضاء نهائيا على الحزب و لو أدى ذلك إلى أسوء

العواقب  وفي يوم 09 أفريل 1938 و بمجرد احتشاد الجماهير الشعبية أمام قصر العدالة أين سيحاكم علي البلهوان و المنجي سليم ، احتجاجا على هذه المحاكمة اختلقت الشرطة الفرنسية الذرائع و أقدمت على جريمة شنعاء راح ضحيتها العشرات من القتلى و الجرحى و تم عقبها إلقاء القبض على علي البلهوان و المنجي سليم ، و على الساعة السابقة من ذلك اليوم أعلن عن حالة الحصار في كل من تونس العاصمة و سوسة و أصبحت شوارع المدينة و كأنها اجتاحها إعصار ، و غمرت الدهشة السكان إذ تملكتهم الحيرة من سرعة الانتفاضة و خطورتها و التي باغتت قوات البوليس و الدستوريين على حد سواء و في يوم 10 أفريل ألقي القبض على الحبيب بورقيبة و الطاهر صفر و الدكتور بوصفارة،        و قدمت من الجزائر نجدة بمائة و ثمانين رجل من الحرس المتجول و اقترفت في الوطن القبلي بعض عمليات التخريب فأعلن عن حالة الحصار في قرمبالية  وصارت المحاكم العسكرية في كل المدن تصدر أحكامها المستعجلة بالأشغال الشاقة و السجن الطويل الأمد ، و غصت السجون و المعتقلات بالوطنيين و انتشر الجيش الفرنسي في البلاد ، يعبث فيها فادا ، و يعذب الأهالي و يضطهدهم و يعتدي عليهم في الشوارع و ينتهك حرمات بيوتهم ، و استمر الاضطهاد و التعسف بصورة فضيعة لم يسبق له مثيل.

    و قد قرر الشعب التونسي إثر حوادث 09 أفريل 1938 الداخلية أن يقابل العنف بالعنف ، فدخلت الحركة الوطنية التونسية بزعامة الحزب الدستوري الجديد في طور جديد من المقاومة ، و قامت الإضطرابات و الحوادث الداخلية في جميع أنحاء البلاد بالرغم من إعلان الأحكام العرفية ، واعتقال الألوف من الوطنيين بشكل مستمر ، و بالرغم من أن الحزب لم يكن له في ذلك الوقت قيادة منظمة     و بعد بضعة أشهر من حوادث 09 أفريل انتظمت الحركة الوطنية – الحزب الجديد – من جديد تحت قيادة الدكتور الحبيب ثامر  و تشكلت شعب للحزب في كافة المدن و القرى في نظام سري محكم    

وصارت هذه التشكيلات تعمل في الخفاء و تنفذ التعليمات التي تتلقاها من القيادة.

و كان الحزب ينظم من وقت لآخر مظاهرات في الشوارع احتجاجا على السلطة الفرنسية و تصرفاتها في تونس ، و أول مظاهرة قام بها الحزب في ذلك العهد كانت في ميناء تونس و شارعها بمناسبة قدوم المقيم العام الفرنسي الجديد " ايريلا لبون Erik labonne" في 22 نوفمبر 1938 و اشتهرت هذه المظاهرة بمشاركة عدد من السيدات اللاتي ألقي عليهن القبض مع عدد من المتظاهرين ،و إزاء هذا التصعيد من جانب الوطنيين رغم حالة الطوارئ جنحت السلطة الفرنسية إلى تخفيف وطأة الاصطياد ، فقررت إرسال لجنة تحقيق تتكون من نواب في البرلمان الفرنسي برئاسة السيد " لاكروزلير" فكان وجود هذه اللجنة مناسبة لأن تتقدم إليها الوفود التونسية من مختلف جهات الوطن بعرائض تطالب فيها بإطلاق سراح الزعماء المعتقلين و الاستجابة لمطالب الشعب.

كما سمح المقيم العام الجديد بإصدار بعض الجرائد ذات الصيغة الوطنية مثل جريدة " تونس الفتاة" و جريدة " تونس"

    و في هذه الأثناء أصبحت الحرب العالمية الثانية على الأبواب ، فظهرت مطامع إيطاليا في الاستيلاء على تونس من جديد ، فقررت الحكومة التونسية في شهر جانفي سنة 1939 إيفاد رئيسها " دلاديه Deladier" إلى تونس لإظهار تمسك فرنسا بها ، واغتنم الشعب هذه الفرصة ليظهر للعالم أنه غير راض عن تصرفات فرنسا في بلاده ، و أنه يطالب باستقلاله ، وقام بمظاهرات رائعة ، و خاصة في بنزرت و باردو ، و تونس و صفاقس و في كل مكان حل به الرئيس الفرنسي ، و قد اعتقلت السلطة الفرنسية أثناء هذه المظاهرات المئات من الوطنيين و حكمت عليهم أحكاما قاسية و نجد احتجاج الشعب على السلطة الفرنسية في كل ما كان يحدثه من أعمال الإرهاب و التخريب التي كلفت الإدارة الفرنسية خسائر فادحة : كما تكاثرت الحرائق في المصالح الفرنسية و في مصالح جيشها و في حقول المعمرين ، فكانت وسائل المواصلات تقطع في سائر أنحاء القطر التونسي ، و خاصة الخط الجديد و أعمدة الهاتف و أسلاكه. و لم يوقف تيار هذه الحركة ما كانت تصدره المحاكم الفرنسية العسكرية من أحكام بالإعدام على كل من يهتم بالقيام بعمل من هذا النوع.

   أما حل الحزب الدستوري الجديد فقد تم يوم 12 أفريل 1938 حيث أعلن مجلس الوزراء قرارا أعلن فيه عن حل الحزب الدستوري بسبب التحريض على تنظيم مظاهرات مسلحة في الطريق والنيل من حقوق القوة الحامية ، و نفذ القرار في الحين فأغلق مقر الحزب الجديد في ذلك اليوم و حجزت الوثائق التي عثر عليها داخله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة السابعة: نبذة عن حياة زعيم الحزب الجديد – الحبيب بورقيبة

   ولد الحبيب بورقيبة بن علي كما يذكر في محاضراته أمام طلبة معهد الصحافة و علوم الأخبار في 03 أوت 1903 بالمنستير من عائلة فقيرة له خمسة إخوة ذكور و بنتان و كان آخر العنقود.

و في عام 1907 بعثه أبوه إلى تونس العاصمة عند أخويه من أجل الدراسة لأن والده غير قادر على التكفل به لفقره و تقدمه في السن ، درس بالمعهد الصادقي الذي درس به كثير من حركة الشباب التونسي أمثال : علي باشحامية و الطاهر صفر و غيرهم ، وكان أبوه من الحين إلى الآخر يزوره في تونس ليقف على حقيقة دراسته و يذكر بورقيبة نفسه أن أباه زاره في المدرسة حيث قال : " جاء إلى الصادقية ليرى إن كنت جادا في الدرس كما كان يوصيني دائما ، فقابل القائم العام للمدرسة " ليد سيردونSerdon" الذي دعاني من قاعة المذاكرة فوجدت أبي معه و على الفور قال له سيردون :" إن أبنك كثير الهرج" قالها ثلاثة مرات . فسأله أبي إن كنت مجتهدا في الدرس فأجابه بأن مثابرتي على الدراسة لا بأس بها . فقال له أبي :" إذن دعه يهرج ما شاء " وكان رأي سيردون أن والدي شجعني على " الشيطنة".          و الحقيقة أن الهاجس الوحيد الذي كان لواليدي هو الاطمئنان علة كدي في الدراسة أما ما عدا ذلك فما كان ليحفل به و هو الذي استبدت به الرغبة في أن يراني عاكفا على تحصيل العلم.

   و في عام 1913 تحصل على الشهادة الابتدائية ، و كان بورقيبة شغوفا بدراسة العلوم الرياضية و يرجع ذلك إلى أستاذ هذه المادة الذي كان ينسجم معه كثيرا . كما أحرز على الجزء الأول من شهادة البكالوريا بتفوقه في مادة الحساب ، و رغم توفقه في هذه المادة إلا أنه لم يتخصص فيها بل مال إلى الفلسفة و العلوم السياسية و علوم الصحافة عندما التحق بالجامعة .

   توفيت والدته فطومة في نفس العام الذي تحصل فيه على الشهادة الابتدائية (1913) و كان أبوه قد دخل كجندي في الجيش العثماني في صفوف المشاة ثم أصبح فيما بعد رقيبا تحت أمرة بوزبوشي المنطقة، ثم أحيل على التقاعد قبل ولادة الحبيب بورقيبة ب21 سنة .

ثم التحق بمعهد " كارنو" رفقة كل من البحري قيقة و طاهر صفر و هو ما أصبح يطلق عليه " الثلاثي الساحلي " و رغم أن البحيري قيقة ينحدر من دستور فإن معاشرته لأهل الساحل جعلته ساحليا في طبعه و سلوكه أكثر من الساحليين أنفسهم. أما الطاهر صفر الذي ينحدر من المهدية فلطالما أشبعه شغف المعرفة و الحياة ، لقد برز الطاهر صفر بسرعته كخطيب مولع بالسياسة و الفن و التاريخ. و إن كان يتمتع بذكاء حاد فإنه كان على حساسية مفرطة سرعان ما أفقدته الحماس لمواصلة سيره في حقول مليئة بالإعشاب الطفيلية، لقد تعلم بورقيبة من طاهر صفر الخطابة و القدرة على تناول المواضيع قولا و تحريرا  أما من بحري قيقة فقد تعلم الحبيب شغف الحياة و ألاعيبها، فالثلاثي الساحلي سيواصل السير معا إلى سنوات باريس، و من هناك سيبدأ لكل واحد منه السير لوحده إلى قدره .

   ثم بدأ اهتمام الحبيب بورقيبة يرنو نحو السياسة و هو في معهد الصادقية حيث قام بأعمال سياسية في عام 1919 بمناسبة عودة الشيخ عبد العزيز الثعالبي ، كما شارك في عام 1922 في مظاهرة 5 أفريل لدفاع الفكرة الوطنية الذي كان يحلم بها و بدافع حب الوطنية، ثم أصبح معجبا باتجاهات الحزب الحر الدستوري الذي أسسه كل من الشيخ عبد العزيز الثعالبي و المحامي أحمد الصافي ، و الذي سيعرف أول انشقاق الداخلي عام 1921 ، حيث أصبح بعض المنتمين لهذا الحزب يأخذون عليه استغراقه في الشعارات الكبيرة ، و قد رأوا أن كلمة " دستور " لا تناسب وضع الأهالي في هذه المرحلة لأنهم مازالوا يحتاجون إلى عناية و رعاية ، و ظهر ما يعرف بالحزب الإصلاحي الذي بد معتدلا و أكثر تفهما في المرحلة و تواضعا في مطالبه السياسية ، و في هذه الأثناء أبد بورقيبة تحمسه لزعامة الحزب الحر الدستوري و في نفس الوقت كان من المهاجمين الشرسين للشيوعيين، و كذلك للنقابيين ، و قد نظر إلى النقابيين على أنهم يريدون بعث البلبلة ، أما الطاهر الحداد فقد أعجب به كثيرا لأفكاره التحريرية حول المرأة ، أما محمد علي فقد نظر إليه كشيطان جلب معه أفكارا هدامة نسجها من خلال رحلته إلى اسطنبول و برلين خاصة و أن اهتمام بورقيبة في هذه الأثناء كان منصبا بشكل كبير على الحياة السياسية الفرنسية ، وكان يمجد الاشتراكيين الذين وصلوا إلى فرنسا أنداك آملا في حصوله على منحة لموصلة الدراسة بالخارج .

   و في الأخير تكفل به أخوه محمود و أرسله للدراسة بباريس على حسابه الخاص و سجل في جامعة السربون لمتابعة دروس في علم النفس و الآداب إلى جانب دروس الحقوق ، و كان مفتونا بالفلسفة و الآداب و كذلك بالعقل الغربي كما كان معجبا بالقائد التركي مصطفى كمال أتاتورك ، و بزعيم الاشتراكية الفرنسية جون جوريس Jean Jaures " ، كان بورقيبة متحمسا للعمل أكثر من الإديولوجيا كما قال عن نفسه لاحقا و العبارة التي قرأها على تمثال أوغيست كونت Augest cunt" :" لنحيا من أجل الغير " المنتصب في ساحة السربون ، و قبل أن يخطو بورقيبة الخطوات الفعلية نحو العمل السياسي كان يلقب بالحيوان السياسي الأول في بلاده لأن تأخر في الاندفاع نحو السياسة فهو لم يقترب كما فعل بعض رفاقه من أوساط نجم شمال إفريقيا التي كانت تعتبر مدرسة ممتازة لكثير من المناضلين المغاربة و إذا انضم الطالب الطيب الدبابي و البحري قيقة و الطاهر صفر إلى صفوف مصالي الحاج الذي كان على رأس هذا التيار السياسي فإن الحبيب بورقيبة لم ينظم إلى هذا الحزب و هو الغدر بالطبقة و هذا الغدر سيؤهله للوقوف دائما في الوسط  و في باريس تزوج الحبيب بورقيبة بأرملة فرنسية ماتيلدا Matilda"    و أنجب منها ابنه الوحيد " الحبيب الابن" و كانت هذه السيدة تكبره بحوالي 12 سنة ، و مع ذلك فقد ارتبط بها ارتباطا وثيقا ، فقد كانت هي عالمه الأول، إذ لم يعد يلتقي برفاقه إلا نادرا محتفظا فقط ببعض اللقاءات القصيرة مع البحري قيقة و الطاهر صفر، حتى أن الجامعة أصبحت عند بورقيبة تمثل الدرجة الثانية من اهتمامه.

   في سبتمبر عام 1926 و هو في عطلة في تونس توفي أبوه و حضر جنازته ثم عاد إلى باريس لاستئناف الدراسة ثم دخل المدرسة الحرة للعلوم السياسية و بذلك يكون بورقيبة قد جمع بين علم النفس، والحقوق و الفلسفة و العلوم السياسية ثم علوم الصحافة ، و بعد حصوله على الإجازة في الحقوق عاد إلى تونس ليمارس مهنة المحاماة و ضل يشتغل في هذه المهنة و في نفس الوقت يمارس السياسة و النشاط الصحفي، ومنذ عام 1929 انغمر في عالم السياسة بلهفة شديدة و في وقت قصير أصبح سياسيا محنكا يحسب له ألف حساب من قبل زملائه و منافسيه في مقصورات  أو صالونـات السياسة فـي مدينـة تونس .

   أما عالم الصحافة فبداية عهده بها تعود إلى عام 1930 حيث كان ينشر مقالات صحافية في جريدة" اللواء التونسي " ثم جريدة " صوت التونسي " ونظرا لنشاطه الصحفي رفقة زملائه في جريدة " صوت التونسي " أحالتهم السلطات الاستعمارية على العدالة.

   و قبل المحاكمة دعاهم المقيم العام لمقابلته بالمرسى فحضرت نفس الجماعة كحضور الشاذلي خير الله صاحب الجريدة ، و أثناء تبادل الحديث كرر المقيم العام مرات عديدة .... كما بينت ذلك صباح  اليوم لصديقكم الشاذلي خير الله ؟. و تم الاتفاق على تأجيل المحاكمة ، لكن بورقيبة تساءل لماذا لم يخبرنا الشاذلي بلقاء الصباح مع المقيم العام ؟ ثم بدأ يتملص بعد هذه الحادثة من جريدة " صوت التونسي" شيئا فشيئا ، وفي يوم 01 نوفمبر 1932 أسس رفقة أعضاء هيئة تحرير " صوت التونسي" جريدة  " العمل التونسي " و سارت هذه الجريدة سيرا طيبا و كان أول مقال كتبه بورقيبة في عددها الأول بعنـوان " الميزانيـة التونسيـة ". لقد ناضل بورقيبة ضد التجنيس بشراسة و قد جعلت منه هذه القضية الراجل المصارع و في مقدمة الفاعلين في الساحة السياسية فبورقيبة الذي ضل متهما في بعض الأوساط حتى ذلك الوقت بإعجابه المفرط بفرنسا سيبرز كأكبر مدافع عن الأصالة التونسية حتى بدا و كأنه  وجد الفرصة ليكفر عن بعض ذنوبه.

     وأول خلاف لبورقيبة مع اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري كان بسبب مصاحبته وفد المنستير الذي جاء لمقابلة الباي للحسم في قضية ابن أحد المتجنسين التي تسببت في أحداث دامية حيث وجه له توبيخا لعدم التزامه بتعليمات الحزب ، لكن بورقيبة رد على هذا اللوم معتبرا أن ذهابه إلى القصر كان بصفته من أصيلي هذه المنطقة " منطقة المنستير" ثم بصفته محام وليس كمتكلم أو ممثل عن الحزب .

   و في يوم 12 ماي 1933 مؤتمر الحزب الأول " مؤتمر نهج الجبل " و حضره بورقيبة و خطب فيه حيث دعي إلى ضرورة استعمال طرق جديدة و اللجوء إلى رجال جدد لمكافحة الاستعمار  لأن العمل الذي تقوم به اللجنة التنفيذية في تلك الفترة لن يجدي نفعا، و عوض أن يعمد أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب إلى طرد الحبيب بورقيبة من الحزب فقد اقترحه الجميع كعضو جديد في اللجنة التنفيذية رفقة زملائه في هيئة تحرير جريدة " العمل التونسي" و بهذا الخصوص يذكر بورقيبة :" و أدركت عندما علمت بلائحة اللوم ضدي أن القصد من إدخالي لعضوية اللجنة التنفيذية هو وضع وثاق يشدني و إقامة العراقيل في وجهي للحيلولة دون قيامي  بأي عمل حتى و لو كانت المشاركة في وفد ظن و أعلمت جماعة اللجنة التنفيذية أنني في غنى عن الشرف الذي منحوني إياه بإلحاقي بهم ."

و في 09 سبتمبر 1933 قدم استقالته من اللجنة التنفيذية مقدما النصيحة لزملائه في جريدة العمل التونسي بعد الاستقالة مثل محمود الماطري ، لكنهم بعد فترة وجيزة قدموا استقالتهم كذلك ، فبدأ التصدع في اللجنة التنفيذية بين الجيل القديم و الجيل الجديد .

   في 02 مارس 1934 استطاع بورقيبة رفقة رفقائه عقد مؤتمر قصر هلال التاريخي و الانفصال عن اللجنة التنفيذية نهائيا مشكلا عوضها الديوان السياسي و منذ هذا التاريخ يظهر الحزب الدستوري التونسي الجديد برئاسة محمود الماطري و كاتبه العام لحبيب بورقيبة ويختفي نوعا ما الجيل القديم و يبرز بقوة جيل بورقيبة و يستمر الحزب الجديد يناضل بزعامة الحبيب بورقيبة حتى تحقيق استقلال تونس في 20 مارس 1956 و كان بورقيبة قبل ذلك قد سجن العديد من المرات في أماكن مختلفة منها برج الجوف بجنوب تونس في 04 سبتمبر 1934 ، و سان نيلولا  بمرسيليا ثم بروما .

   كان الحبيب بورقيبة أثناء الحرب العالمية الثانية و رغم المعاملة الخاصة التي لاقاها في المعتقل من قبل دول المحور إلا أنه أبدى بعض الميول نحو الحلفاء على أساس المثل الديمقراطية و الأهداف التحررية التي ادعوها ،و في نهاية الحرب شرع بورقيبة في انتهاج سياسة جديدة علها تجدي نفعا و تدفع بالقضية التونسية نحو التقدم ، و ذلك بالاتجاه نحو المشرق العربي حيث سيعقد هناك اجتماع لتأسيس جامعة الدول العربية في القاهرة ، و لا بد أن تكون القضية التونسية من بين نقاط جدول أعمالها و رغم الظروف المشددة على بورقيبة في تونس إلا أنه استعد لهذه المغامرة ، وبعد ترتيب كل الأمور و طريقة الهروب و السفر يذكر بورقيبة كيف انطلقت هذه الرحلة الشاقة فيقول :" و بينما أنا مستغرق في حيرتي من أمر هذه الرحلة إذ بزوجتي ، أم ابني الحبيب تدخل عليا تسألني : أي بذلة تريد أن ترتدي لمقابلة القنصل الأمريكي ؟- لم يخبرها بأمر الرحلة – فأجبتها إن هذه المقابلة لن تتم و كان الوقت التاسعة ليلا فأقبل علي عبد الصمد فقلت له إنني مستعد للرحلة و في تلك اللحظات فكرة في أمر زوجتي و ابني المسكينين و ما سيكون مصيرهما لو هلكت في الطريق و هل أعلمهما بما أنا مقبل عليه من مخاطرة أم لا ؟ ثم قررت أنه لا فائدة من إعلامهما و من حسن الحظ أن عوني الجندرمة كانا قد انصرفا و لا شك أنهما عندما شاهداني أوقف السيارة أمام باب المنزل وأصعد إلى بيتي قد فكرا أنني سأنام و أرتاح ؟ فتمكنت من الخروج و اجتزت نهج الوادي -و كان نهج بوخريص – يخترقه و في هذا النهج تسكن وسيلة  وهي امرأة تحبني و قد توقفت برهة قصيرة من الزمن و قد هممت بأن أقصد بيتها لأراها و لسان حالي يردد بيت الشاعر :

                أمر على الديار من غير حاجة

                                                               لعلي أراكم أو أرى من يراكم

   و لكنني خفت أن تضعف نفسي أو يقع مالا تحمد عقباه فعدلت عن التعريج على بيت وسيلة،       و واصلنا سيرنا في جنح الليل ." ثم واصل بورقيبة رحلة المغامرة عن طريق صفاقس فقرنقة و من قرنقة شق البحر عن طريق زورق صغير لأخذ التجار التونسيين نحو صبراته بليبيا و منها بواسطة جمل إلى مصراته فبنغازي و أخيرا وصل بورقيبة بعد رحلة شاقة و طويلة إلى القاهرة  دامت 22 يوما من 26 مارس 1945 إلى 16 أفريل 1945 و خلفه على قيادة الحزب صالح بن يوسف الأمين العام للحزب رفقة بقية أعضاء الديوان السياسي و هم : المنجي سليم ، الهادي نويرة ، و علي البهلوان و الدكتور سليمان بن سليمان و في القاهرة كانت لبورقيبة عدة نشاطات و اتصالات مكثفة سواء بمندوبي  الدول العربية في الجامعة العربية أو بسفراء أمريكا و فرنسا ، و خاصة بالسفير العراقي الذي كان له سندا قويا و قدم له الدعم الكبير ساعده على القيام بزيارة دول المشرق العربي كالأردن و السعودية ، ثم عاد إلى القاهرة و عند تأسيس مكتب المغرب العربي بالقاهرة كان عضوا فيه ، كما سمحت له الظروف بأن يزور الولايات المتحدة الأمريكية لدعم التونسية في الأمم المتحدة و أصبحت لبورقيبة شبكة واسعة من العلاقات.

و في هذه المرحلة بدأ يدخل في صراع سياسي داخلي مع بعض رفاقه في الديوان السياسي و وصل الصراع حتى إلى عضويته في لجنة تحرير المغرب العربي بالقاهرة.

و في ديسمبر عام 1949 قرر بورقيبة العودة إلى تونس مقتنعا بأن النضال الحقيقي يجب أن يكون على أرض الوطن ، فعاود الكرة لتحقيق أمنيته القديمة و هي التفاهم مع الفرنسيين مباشرة ، و في أفريل 1950 ذهب إلى باريس لهذا الغرض و لكن الصعوبة التي كان يصطدم بها دائما هي استمرار السياسة الفرنسية على عدم الاعتراف بشرعية الحزب الدستوري الجديد منذ أن حل عام 1938 ، لذلك تمسكوا بالفكرة القائلة بأن الحكومة الفرنسية لا تعرف مفاوضا شرعيا سوى الباي الذي عقدت معه معاهدة الحماية ، بل أن بعض هؤلاء الساسة راح يشيع التهم الباطلة حول الدستورين فاتهموهم بالانتماء إلى الشيوعية الدولية ،   و حتى يبطل الوطنيون التونسيون هذه التهمة جعلوا الاتحاد العام التونسي للشغل ينضم إلى الاتحاد الدولي للعمال الأحرار ، و هو الاتحاد الذي تشترك فيه النقابات الأمريكية و يعتبر معاديا للنقابات الشيوعية  و حرصا منه – بورقيبة – على انقاد الصداقة الفرنسية التونسية المفيدة لكلا البلدين فلقد رغب دوما في حل المشاكل بواسطة الحوار و هو لا يود أن يظل الحقد و الضغينة بين الشعبين التونسي      و الفرنسي إلى الأبد ، و من ناحية أخرى فقد كان يرغب دوما في الحصول على مساندة الرأي العام الفرنسي و العالمي ، ذلك أن رفض الحوار يحمل فرنسا قبعة الأخطاء و يبرر عندئذ كل التبرير الكفاح المسلح الذي أقر بورقيبة العزم على خوضه إذ ما رفضت فرنسا التفاهم عن طريق المفاوضات  ومن هذا المنطلق قرر بورقيبة السفر إلى باريس فوصلها يوم 12 أفريل 1950 ، و في يوم 14 من نفس الشهر أدلى في العاصمة الفرنسية بالتصريح التالي :" بعد الرحلة التي قمت بها إلى كل من نيويورك و القاهرة حرصت على القدوم إلى باريس لأضع فرنسا أمام  مسؤوليتها ، ذلك أن هذه البلاد التي تربطنا بها عدة روابط مصرة على عدم اعتبار إدارة التونسيين النتزايدة لتحرير بلادهم و في حين نرى قسما كبيرا من العالم العربي قد استرجع في الوقت الحاضر استقلاله تبقى فرنسا الدولة الوحيدة الراغبة في إبقاء نظام الحماية الذي يكتسي صبغة استعمارية قد أكل عليها الدهر و شرب ، و لقد بينت لي الجولات التي قمت بها في مختلف أإرجاء البلاد التونسية ، أن هذا الوضع يثير امتعاض الشعب التونسي بإجماعه ، أنه لا يمكننا العيش بدون وطن ، و لقد كنا نود الوصول إلى تسوية مرضية للطرفين و لكننا لم نجد أمامنا إلى حد الآن إلا أناس " عنيدين" و إن هذا الوضع الحالي من شأنه أن يفضي لا محالة إلى انتفاضات مؤسفة ، و أنه لمن واجبي قبل أن يحصل ذلك لفت انتباه الفرنسيين بفرنسا للأمر ".

     وفي يوم 15 أفريل 1950 سلم لوكالة " فرانس براس" النقاط السبع التي تلخص أهم المطالب التونسية وهي:

1- بعث السلطة التنفيذية التونسية . 

2- تشكيل حكومة تونسية يرأس اجتماعاتها عاهل البلاد.

3-إلغاء الكتابة العامة للحكومة التونسية .

4- إلغاء المراقبين المدنيين .

5- إنشاء بلديات منتحبة مع تمثيل المصالح الفرنسية حيث ما توجد جاليات فرنسية .

6- إحداث مجلس وطني تأسيسي منتخب بالاقتراع العام .

رفض المستوطنون الفرنسيون " المتفوقون " هذه المطالب و ضربوا بها عرض الحائط و عملوا على إبقاء الحزب الجديد خارج القانون لأنه منحل و تمت متابعة قادته و رؤساء الشعب الدستوري و اتهموهم بالتآمر على أمن الدولة ، كما تم حل الاتحاد العام التونسي للشغل و عزل الموظفين الذين انخرطوا في الحزب الدستوري أو الذين قدموا له مساعدة .  

   و لما لم تجد مساعي الوزير الأكبر " محمد شنيف" و وزير العدل صالح بن يوسف في باريس نفعا بل العكس ضرت مذكرة 15 ديسمبر 1951 تؤكد من خلالها الحكومة الفرنسية من جديد على مبدأ السيادة المزدوجة و على إصرارها على عدم التخلي في المستقبل عن القيام بعملها لفائدة مجموع الساكنين بالإيالة لقد أذهلت هذه المذكرة الوطنيين التونسيين و كانت إشارة للدخول في مرحلة جديدة حاسمة ، مراحل الكفاح التونسي ، حيث جاء الرد سريعا على لسان الحبيب بورقيبة قائلا :" لقد طويت صفحة من صفحات التاريخ التونسيين  و إن جواب السيد شومان – وزير الخارجية الفرنسي- يفتح عهد من القمع و المقاومة مع ما يتبع ذلك من دموع و أحزان و أحقاد. و في أوائل سنة 1952 عاد بورقيبة من باريس إلى تونس و دعا الشعب التونسي للكفاح حتى النهاية .

و بمجيء المقيم العام الجديد " جون دي هوتكلوك" يوم 13 جانفي 1952 شرع في ترهيب و تضييق الخناق على الحزب الجديد و منعه من مؤتمره المقرر يوم 18 جانفي 1952 و قبله بيوم " 17 جانفي " انتظمت مظاهرة في باجة بمشاركة عدد كبير من النساء من بينهم السيدة وسيلة بن عمار.

وفي 18 جانفي ألقي القبض على الحبيب بورقيبة و أبعد إلى طبرقة وعلى عدد من الدستوريين بين قرابة 150 دستوري .

   و في أول جوان  1955 عاد بورقيبة إلى تونس بعد سنوات طويلة قضاها في المعتقل و في المنفى حيث قدم عن طريق البحر عبر باخرة  " مدينة الجزائر " القادمة من مرسيليا و نزل في ميناء حلق الواد رافعا يداه ملوحا بمنديل أبيض تحية لشعبه و هو يكفكف دموعه فاهتزت مشاعر مستقبليه.

   و كان بورقيبة قد تجاوب مع مقترح رئيس الوزراء الفرنسي " منداس فرنس" الذي زار تونس في 31 جويلية 1945 عارضا على الأمين باي نظام حكم ذاتي داخلي يسمح بتشكيل حكومة تونسية. و تمثل تجارب بورقيبة في تصريحه التالي :" الاستقلال يضل الطموح الأكبر للشعب التونسي ، و تشكل مقترحات منداس فرنس مرحلة حاسمة " هذا النهج الجديد لبورقيبة كان عاملا بنصيحة الملك عبد العزيز بن سعود الذي كان قد أوصاه عند إقامته بالمملكة العربية السعودية عام 1948 باعتماد سياسة المراحل و تجنب المواجهة و حماية الطاقات المناضلة لكن القوميون التونسيون المتشددون لم يتفهموا هذا النهج السياسي الذي يكرس زعامة بورقيبة فحذروا من استعمار جديد مقنع . و اعتبر صالح بن يوسف الأمين العام للحزب أن الحكم الذاتي بمثابة خطوة إلا الوراء مستنجدا بعروبة و قومية الشعب التونسي لينادي بحرب عارمة تسودها جميع دول المغرب العربي ضد فرنسا و بهذا يكون الصراع قد احتدم بين رئيس الحزب بورقيبة و بين أمينه العام صالح بن يوسف انتهى بإقصاء صالح بن يوسف من الحزب يوم 12 أكتوبر 1955 لكن هذا الأخير لم يكترث لهذا القرار و ضل متمسكا بمنصبه كأمين عام خاصة و أنه تلقى تأييدا من جمال عبد الناصر في هذا الوقت بالذات مما زاد في قلق بورقيبة و رفاقه فتأزمت الأوضاع و تطورت الأحداث أكثر .

   و في نوفمبر 1955 عقد الحزب الدستوري الجديد مؤتمر في صفاقس و انتصر فيه بورقيبة و توسعت دائرة الصراع حتى شملت رفقائه الأوائل أمثال البحري قيقة و الطاهر صفر و سليمان بن سليمان ، و محمود المطاري و الشاذلي الخلادي ... الذين اتفقوا على الاستقلال إلا أنه لم تكن لهم الجرءة السياسية في نظر بورقيبة فانتقدهم في خطبة.

   و بعدما وقع بورقيبة على وثيقة الاستقلال التام يوم 20 مارس 1956 و خروج صالح بن يوسف من تونس معارضا ، واصل بورقيبة تألقه حيث أصبح وزيرا أولا ، و شرع في التخطيط للانقلاب على الأمين باي ، و في 25 جويلية 1957 ينجح في الانقلاب و يصبح هذا التاريخ موعد الجمهورية و يصبح بورقيبة يلقب بآخر بايات تونس، ثم يتزوج بعشيقته السيدة وسيلة بن عمار التي تعرف عليها منذ 12 أفريل 1943 حين جاءت لتهنئته بمناسبة إطلاق صراحه بعد خمس سنوات قضاها في المعتقل ثم انتخب رئيسا للجمهورية التونسية و منذ عام 1974 انتخب رئيسا للجمهورية مدى الحياة.

   و في يوم 07 نوفمبر 1987 تفاجأ العالم بتنحية الحبيب بورقيبة بسبب ملف صحي حسبما يقال واعتلاء زين العابدين بن علي رئاسة الجمهورية التونسية و أصبح يوم 07 نوفمبر يوم وطني – عيد التحول الوطني في تونس- يحتفل به احتفالا رسميا أما الرئيس بورقيبة الزعيم ، المجاهد الأكبر ، آخر بايات تونس، وحيد القرن فقد ظل في إقامته الجبرية في " قصر مرناق " بضواحي تونس العاصمة حيث فارق الحياة في شهر سبتمبر 2000 عن عمر تجاوز التسعين سنة .

 

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                          

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة الثامنة: موقف الحزب الدستوري التونسي من اندلاع الحرب العالمية الثانية

   لقد كانت حوادث أفريل 1938 ضربة موجعة للحزب الدستوري الجديد حيث حل الحزب و أعلنت حالة الحصار و أعتقل الطاهر صفر و الحبيب بورقيبة ، و بلغ عدد الاعتقالات – على حدود قول الدستوريين – مابين الألفين و الثلاثة آلاف شخص .

   أما الحزب الدستوري القديم فقد ابتهج كثيرا لما حل بخصمه و اعتبر ذلك جزاء الخائن ، و أكثر من ذلك أن عبد العزيز الثعالبي قد ذهب بعيدا بأن أولى بشهادة ضد الحبيب بورقيبة.

    و إثر هذا أصبح موقف الحزب الدستوري ضعيفا خاصة و أن الحرب العالمية الثانية على الأبواب.

    و من جهتها وجدت السلطات الاستعمارية الفرنسية فرصة سانحة لسلوك سياسة جزئية ، فغداة الحوادث – حوادث أفريل 1938- صرح المقيم العام بأنه لا ينوي الرجوع في سياسته المتحررة ، ثم قرر مباشرة بحث مسألة تحسين حالة الفلاحة و الصناعة التقليدية ، حيث أصبحت تحتل الصدارة في الوقت الذي خمد فيه كل نشاط سياسي.

   ثم جاءت أوامر أول جويلية 1938 التي أسفرت عن خنق الصحافة التونسية و تشديد التشريع الخاص بالجمعيات و الاجتماعات العمومية و التنظيمات السياسية .... إلخ .

    و لكن الشعب التونسي لم يفقد الأمل في المستقبل ففي سنة 1939 تمكن الدستوريون من تضييق الخناق على الحكومة ، و ذلك بعد رفع الحصار و إطلاق سراح نحو المائة و خمسين معتقلا من طرف المقيم العام الجديد " إيريلا لابون".

    و لقد حاول الدكتور الحبيب ثامر و الطيب سليم المحافظة على انسجام الحزب و على حماسه ، و قد كان المطلب الأساسي للدستوريين آنذاك يتمثل في إطلاق سبيل المبعدين.

    وبالرغم من القمع الشديد توصلت الاجتماعات في بيوت المناضلين و توالت العرائض و المناشير و المظاهرات  و حتى عمليات التخريب التي إن دلت على شيء إنما تدل على حيوية الحزب الذي استمر يضطلع برسالته، رغم محاولة القضاء على قيادته. كل هذه الظروف الصعبة التي مر بها الحزب الدستوري الجديد جعلته لم يتخذ موقفا علنيا واضحا من اندلاع الحرب العالمية الثانية باعتباره من جهة حزبا منحلا و من جهة ثانية أن أغلب قيادته كانوا في السجون و المعتقلات.

    و في نوفمبر عام 1939 ألقت السلطات الاستعمارية القبض على الباهي الأدغم ، والهادي السعيدي، و الهادي خفشة ، و البشير زرق العيون.

    و لما اندلعت الحرب العالمية الثانية و انكسرت فرنسا أمام ألمانيا أتضح للدستوريين انحطاط فرنسا و عجزها عن استمرار سيطرتها على تونس لمدة أطول ، خاصة و أن الدعاية الألمانية قد كانت في هذه الفترة تصل إلى تونس عن طريق عدة أصوات معروفة مثل يوسف بحري العراقي الذي كان يتكلم في إذاعة برلين بالإضافة إلى الدستوري القديم الدكتور مراد .

   و في الوقت الذي ابتهج فيه الحزب الدستوري القديم بسقوط فرنسا و إبداء إعجابه بالماريشال " بيتان" حيث كان يعلق عليه أمالا كبيرة ، حيث صرح بهذا الخصـوص عبد العزيـز الثعالبي قائـلا: " إن الإسلام يحب القوة و العدل ، و قد أظهر تفضيله للقادة " فقد وجه الدستوريون الجدد أنظارهم عكس ذلك أي إلى الباي أحمد إذ لم ييأسوا منه بالرغم من عدم اكتراثه بهم و نبهوه إلى أن مهمة فرنسا قد انتهت ، و أعدوا المظاهرات للمطالبة بإطلاق سراح المساجين.

   و عند إمضاء الهدنة بين فرنسا و ألمانيا رأى الحزب الدستوري أن يقوم بحركة واسعة للمطالبة بالاستقلال لتونس و بقية أقطار المغرب العربي ، حيث أصبحت وضعية فرنسا الجديدة الناتجة عن احتلال جيوش المحور لها تجعلها عاجزة عن القيام بتعهداتها نحو تونس ، و الحماية و أن ينادوا بالاستقلال لتونس ، و في 20 جوان 1940 تقدم وفد برئاسة الحبيب ثامر بعريضة إلا البلاط يطالب فيها حكومة الباي بإعلان سقوط الحماية و إطلاق سراح الزعماء المعتقلين في فرنسا ، كما تقدمت وفود أخرى بعرائض في نقس المعنى إلى السلطات التونسية المحلية  لكن السلطة الفرنسية اعتقلت هذا الوفد قبل أن يحض بمقابلة الباي  كما اعتقلت أعضاء الوفود الأخرى و زجت بهم في السجون، ثم أطلقة سبيلهم بعد بضعة أسابيع بتدخل من الباي نفسه .

   و على إثر ذلك كثرت أعمال التخريب و الاضطرابات و الحوادث الدامية و الثورات المحلية ، و كان أبرزها حوادث قصر هلال و ثورة دقاش ، مما أدى إلى اعتقال مئات من المواطنين .

    أما الزعماء الذين اعتقلوا على إثر حوادث 09 أفريل 1938و في مقدمتهم الزعيم الحبيب بورقيبة فهم لا يزالون معتقلين في سجن " سان نيكولا" بمدينة مرسيليا ، و قد ساءت حالتهم من الجوع و العذاب إلى درجة أن أشرف بعضهم على الهلاك ، و لم تتجاسر السلطة الفرنسية على محاكمتهم خشية وقوع اضطرابات خطيرة في تونس – لكن إزاء ضغط الرأي العام التونسي و استمرار الحوادث عملت على تحسين حالتهم المادية ثم أطلقت سراح 12 منهم و نقلتهم إلى قرية " تريتيس Trites" بقرب مدينة " أكس أنبرفانس Aixen provence" حيث أقاموا هناك إقامة جبرية.

    و بعد فترة من التردد عادت السلطة الفرنسية من جديد إلى سياسة القمع ، فاعتقلت في 19 جانفي 1941 الدكتور الحبيب ثامر و الطيب سليم و هما يتأهبان لاجتياز الحدود التونسية الليبية ، فكان اعتقالهما شديد الوقع على نشاط الحزب خاصة و قد حكمت عليهما المحكمة بعد ثلاثة عشر شهرا بالأشغال الشاقة لمدة عشرين سنة و لم تنفعهما مرافعة الأستاذ : تيكسييه  Taxier" الحماسية و أمام هذه الصدمة لم يقف الحزب الجديد مكتوف الأيدي بل شكلت دواوين سياسية أخرى تولت زمام الحركة، حيث كلما اعتقلت السلطة الفرنسية جماعة قامت مكانها جماعة أخرى على قيادة الحركة ، و هكذا لم تنقطع حركة المقاومة.

    أما الحبيب بورقيبة فرغم جميع العراقيل إلا أنه تمكن من تبليغ توجيهاته من السجن بفرنسا عام 1942 حرص فيها على تحذير التونسيين من التعاون بأي شكل من الأشكال مع قوات المحور.

    و مما سبق نستنتج بأن موقف الحزب الدستوري التونسي من اندلاع الحرب العالمية الثانية لم يكن قويا موحدا بل كان منقسما يمثله تياران ، تيار الحزب القديم و كان يؤيد قوات المحور و تيار الحزب الجديد الذي كان يسير بمقتضى توجيهات الزعيم الحبيب بورقيبة الموجود آنذاك في سجن " سان نيكولا" بمرسيليا و التي يحذر فيها التونسيين من مغبة التعاون مع قوات المحور ، و طبعا هذا الموقف الضعيف المنقسم يعطي الفرصة أكثر للسلطات الاستعمارية الفرنسية لممارسة مزيد من القمع و الاضطهاد .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة التاسعة: نشاط الحزب الدستوري التونسي أثناء الحرب العالمية الثانية.

    في الحقيقة لقد انتعش نشاط الحزب الدستوري و تعزز باعتلاء محمد المنصف باي عرش تونس في 19 جوان 1942 هذا الباي الذي كان معروفا بمواقفه الوطنية السابقة ، و مناصرته لهذا الحزب الذي كان عضوا رسميا فيه منذ شبابه سنة 1922 ، فعمل على تقوية الروح الوطنية بواقفه الخالدة ، و قد أراد أن يدافع عن كرامة عرشه و حقوق شعبه ، فقدم عريضة إلى رئيس حكومة "فيشي" يوم 04 أوت 1942 طالب فيها باحترام السيادة التونسية ، و إرضاء رغبات الشعب ، و كانت هذه العريضة في بنودها الستة عشر لا تختلف عمـا كان يطالب به الحزب قبـل اعتقال زعمائـه سنـة 1938.

    و إثر هذا توترت العلاقات بين المنصف باي و ممثل فرنسا بتونس  لكن الأزمة انفرجت بعد أن وعدت الحكومة الفرنسية الباي بتحقيق مطالبه لكنها في الحقيقة لم تنجز شيئا بل بالعكس بدأت منذ ذلك الحين تضمر الشر للباي و تنتقي الفرص للتخلص منه  لقد حرص المنصف باي على ملازمة تونس الحيادية في الحرب العالمية الثانية و أبلغ ذلك رسميا الحلفاء و دول المحور و بالتالي لم يخضع للضغط الألماني أو الأميرال " ستيفا" و لا إلى بعض أفراد عائلته بل تخلص من تلك المصاعب على أكمل وجه و كانت له عدة مواقف مشرفة منها مطالبة المريشال " بيتان" نقل المقيم العام " ستيفا من تونس لتصرفاته غير اللائقة و كذلك احتجاجه علىقنبلة مدينة القيروان جوا و غيرها من المواقف .

   و في 13 ديسمبر 1942 و دون انتظار موافقة الإقامة العامة شكل المنصف باي وزارة قومية تونسية يرأسها محمد شفيق بمساعدة الماطري و الصالح فرحات و شيخ المدينة محمد العزيز الجلولي و باختياره لشخصيات معتدلة كانت هذه الحكومة في مأمن من انفعالات الإقامة العامة ، ثم أبدى الباي و حكومته استعدادهما للتعامل مع الإقامة العامة و كانت هذه السياسة الرشيدة قد جلبت للباي انتصارات حقيقية منها إلغاء مرسوم 30جانفي 1898 المتعلق بامتلاك الأجناس بطريقة المفاوضة العقارية أو المالية – لقد ضل الوطنيون يقاومون ذلك الأمر منذ 45 سنة – و منها مد الموظفين التونسيين بمنحة 28% المعادلة لمنحة زملائهم الفرنسيين .

               وباختصار إنه لم يبرهن منذ 1880 أي باي سابق مثلما برهن عليه المنصف باي من القوة    و النجاح في التمسك باستقلاله ، كما لم يعرقل حياد الباي الرسمي استعادة الدستور الجديد لنشاطه ، الذي اهتم خاصة بالشبيبة الدستورية التي كان ينظمها الهادي نويرة ثم أخد المناضلون المحنكون يعودون لقيادة مناضليهم في هذه الأثناء أصبحت تونس جبهة ساخنة من جبهات الحرب العالمية الثانية ( جبهة إفريقيا ) و مسرحا لعدة معارك طاحنة بين الحلفاء و قوات المحور وأصبحت القوى الوطنية التونسية حينئذ في تجاذب بين القوى المتحاربة ، أما بالنسبة للحزب الحر الدستوري فكان له موقفان بحكم انقسامه ، القديم و كان يؤيد قوات المحور أما الجديد فكان زعيمه الحبيب بورقيبة يحذر من سجنه أنصاره من التعامل مع الألمان.

   أما أحداث المعارك على الأرض التونسية فيمكن بعضا منها على النحو التالي:

   في يوم 09 نوفمبر عام 1942 تم الاستيلاء على مطار العوينة من طرف القوات الجوية الألمانية ثم توالى وصول الطائرات الألمانية حيث بلغ عددها حتى يوم 10نوفمير 1942 إلى 120 طائرة و في 12-13 نوفمبر من نفس العام نزل الجنود الألمان و الإيطاليون بحلق الواد بضواحي العاصمة تونس، و بنزرت و تمكنوا من الدخول إلى العاصمة تونس دون قتال ثم استولوا على شرق البلاد التونسية و خاصة الموانئ منها ، حيث تمكنوا من تدعيم مواقفهم في وسط البحر المتوسط و من عرقلة مواصلات الحلفاء في اتجاه مصر مع حماية مواصلتهم في اتجاه ليبيا.

    و من ناحية أخرى فإنهم أبعدوا مؤقتا الخطر الذي كان يتهدد جيش " رومل" المتقهقر أمام تقدم الجيش الثامن بقيادة القائد الإنجليزي " منتغمري".

   و في يوم 21 نوفمبر نزلت الفرقة البريطانية الثامنة و السبعين بعنابة و انتصبت على واجهة الجبل الأبيض و بسيدي نصير و وادي زرقة في حين تجمعت المصفحات الأمريكية قرب باجة و امتدت الحرب إلى عدة مناطق من التراب التونسي .

   و في الجنوب استولت مجموعة فرنسية و أمريكية يقودها الجنرال " فيرفير" على قفصة يوم 22 نوفمبر 1942 ، و في الوسط طرد الجنود الفرنسيون و الأمريكيون و الإيطاليون من سبيطة  و في الشمال شرع البريطانيون و الأمريكيون في الهجوم في اتجاه وادي زرقة و مجاز الباب و طبرقة من جهة و باتجاه العاصمة تونس من جهة ثانية .

   و في يوم 29 نوفمبر 1942 وصلت مصفحاتهم إلى جنوب ماطر و الجزيرة .

   و في الوقت الذي كانت فيه المعارك دائرة على الأرض التونسية فإن الحزب الجديد استمر في النشاط ولم يتوقف ، حيث رأى الوطنيون الموجودون في السجون أن الوقت مناسب لاستئناف نشاطهم السياسي الوطني في هذه الظروف الحرجة التي تجتازها البلاد التونسية ، فحاول المعتقلون منهم الخروج من السجن بالقوة بعد أن علموا أن السلطة الفرنسية بصدد تدبير مؤامرة لنقلهم إلى ما وراء خطوط القتال ، فقاموا بالثورة داخل السجن و تمكنوا من فتح أبوابه إلا أن الجنزد المرابطين أمام باب السجن حالوا بينهم و بين ذلك ، بعد أن قتل منهم أربعة و جرح الكثير ، و كانت هذه الحادثة السبب الرئيسي في إطلاق سراح المعتقلين السياسيين في كافة سجون تونس في 01 ديسمبر 1942 .

   أما مساجين مرسيليا فقد أطلق سبيلهم يوم 18 نزفمبر 1942 و سلموا إلى السلطات الإيطالية التي نقلتهم إلى روما في 09 جانفي عام 1943 على أمل جعلهم دعات لفائدتها و استقر الزعيم الحبيب بورقيبة في قصر – فيورينتيني" حيث كان محل حفاوة فائقة من طرف السلطات الإيطالية و لكنه لم ينخدع إليها و وضع شرطا مسبقا للتفاهم مع روما ألا و هو استقلال البلاد التونسية .

   و في تونس كان الدستوريون الجدد يتطلعون إلى رجوع الحبيب بورقيبة قائدهم الحقيقي و في انتظار ذلك قاموا بتنظيم الشعب الحزبية من جديد و عادوا إلى تنظيم المظاهرات في الشوارع و تدخلوا مباشرة في الشؤون العامة إلى درجة إقلاق الوزراء التونسيين . 

   و بخصوص مفاوضات زعيم الدستور الجديد الحبيب بورقيبة في روما تذكر وثائق الحزب الجديد أنه لما اضطر بورقيبة إلى توضيح وجهة نظره كتابيا حرر مذكرة إلى الحكومة الإيطالية وضع فيها شرطا أساسيا لأية مشاركة من الحزب الجديد يتعذر طبقا على الحكومة الإيطالية قبوله و هو الاعتراف باستقلال تونس التام – كما أسلفنا- و فتح مفاوضات مباشرة بين الحكومة التونسية و دول المحور لضبط نطاق تلك المشاركة و هدفها ، و في 06 أفريل عام 1943 تكلم لأول مرة في إذاعة روما فألقى خطابا كان يحتوي على تلميحات إلى الاعتداءات المفرطة التي قام بها الاستعمار الفرنسي، و لكن بالخصوص إلى تحذير لمواطنيه من بعض المطامع الأجنبية ، كما احتوى الخطاب على نداء لتوحيد الصفوف حول العرش و بعد ذلك بيومين رجع الزعيم إلى تونس بعد خمس سنوات من الاتفاقية .

   و ذلك بإلحاح من جلالة الملك المنصف باي و كان ذلك يوم 08 أفريل عام 1943، و إن كان بعض المواطنين قد أبدوا تعاطفا نشيطا مع الألمان كما عبرت عن ذلك جريدتهم " الشباب " فإن قادة الحزب الدستوري الجديد و على رأسهم الحبيب ثامر قد اتخذوا موقفا متسما بالحذر و الواقعية و ذلك وفق للنصائح التي أسداها إليهم الحبيب بورقيبة ، ففي رسالة وجهها هذا الأخير من منفاه بسجن "سان نيكولا " إلى الحبيب ثامر بوم 08 أوت 1942 كتب الزعيم بورقيبة يقول :" إن كثيرا من الناس يعتقدون اعتقادا ساذجا أن هزيمة فرنسا هي عقاب من الله و أن السيطرة الفرنسية انتهت و أن استقلالنا سيأتينا من انتصار المحور الذي هو أمر لا شك فيه و أن هذا شيء مفهوم  وأقول أن هذا خطأ وهو خطأ خطير لا يغتفر و أننا سندفع ثمنه لو شاطرناه و بالخصوص لو شاطرتموه – لا الحزب فحسب الذي تمكن لحد الآن من البقاء رغم جميع الاضطهاد ، بل الحركة الوطنية بأجمعها و النخبة المفكرة و العاملة في الأمة " إن الحقيقة التي تبهر العيون هي أن ألمانيا لم تربح الحزب و لم يعد في إمكانها أن تربحه و أن الوقت يعمل ضدها و أنها حسابيا ستتحطم " ، ثم يواصل بورقيبة كلامه :" و الذي ينبغي لكم أن تقوموا به و الحالة تلك هو إعطاء الأوامر للمناضلين تحت مسؤوليتي و حتى بإمضائي إن اقتضى الأمر ، للاتصال بالفرنسيين أنصار ديغول بتونس  و ذلك لتحقيق تضافر عملنا السري مع عملهم إن أمكن ذلك و ترك مشكل استقلالنا جانبا إلى ما بعد الحرب ، حاولوا بقدر الإمكان و بواسطتهم الاتصال بالأعوان الإنجليز و الأمريكان الذين لا بد أنهم موجودون بكثرة في تونس و من الممكن جس النبض حول نوايا بلديهم تجاهنا بعد النصر " ثم يواصل " إن مساندتنا للحلفاء أن تكون لا مشروطة لأن الأمر الأساسي بالنسبة إلينا نجد أنفسنا عند انتهاء الحرب الذي لن يتأخر الآن طويلا ، في صف المنتصرين الذين ساهموا في الانتصار المشترك و لو بقسم ضئيل ".

   إذن بعد هذه الرسالة و هذا الموقف من بورقيبة لم يعد بإمكان قادة الحزب الدستوري الجديد أن يفكروا في أي نوع من أنواع التعاون مع قوات المحور ، بل إن حرصهم الأساسي يتمثل في العمل على إعادة نشاط الحزب و إعادة تكوين شعبه و الزيادة في عددها و تنظيم الاجتماعات الإخبارية الدورية و تنظيم و تنشيط الشبيبة الدستورية و الهلال الأحمر و السهر على ظهور الجريدة اليومية " إفريقيا الفتاة التي تأسست في أوائل عام 1943 هو ما تم فعلا حيث استأنف قادة الحزب كفاحهم و نشاطهم و انتظم الحزب من جديد بجميع تشكيلاته و انتشرت شعبه في المدن و القرى و المداشر و أنشأ منظمة للشباب التونسي تضم الآلاف من الشباب الذين أنشأت لهم  معسكرات التدريب و غير ذلك من النشاط  وفي 07 ماي عام 1943 دخل جيوش الحلفاء إلى العاصمة تونس و في نفس اليوم اقتحمت جنود الإنجليز قصر حمام الأنف حيث يوجد الباي محمد المنصف ألقوا عليه القبض و ذهبوا به إلى مدينة تونس ثم إلى المرسى أين جاءه الجنرال "جوان Jun" يوم 13 ماي و طلب منه إمضاء وثيقة التنازل عن العرش ،فرفض ذلك و عندئذ أمضى الجنرال " جيرو Jerau" القائد الأعلى للقوات الفرنسية بإفريقيا أمرا يقض بعزل العاهل التونسي الذي أبعد إلى الأغواط في الجنوب الجزائري ، و في 06 جويلية أرسل المنصف باي إلى الجنرال ماسط وثثيقة التنازل عن العرش ثم تم نقله إلى مدينة تنس في الشمال الجزائري ثم إلى مدينة " بو pau" بجنوب فرنسا خيث أدركته المنية هناك في أول سبتمبر عام 1948  وكان سبب تنحية المنصف باي و نفيه في نظر الحلفاء هو اتهامه بالتعاون مع قوات المحور لكنه و في حقيقة الأمر أن هذا الاتهام باطل لأن المنصف باي كان قد عمل على الحياد طيلة فترة حكمه رغم صعوبة المهمة في ظروف الحرب الدائرة ، و قد بينت فيما بعد الوثائق بطلان تلك التهمة .

     و الواقع أن ذنبه الوحيد يتمثل في جرأته على معارضة سلط الحماية و المطالبة باسم الأمة التونسية بحقوقها المشروعة ، و قد تألم الشعب التونسي من إبعاد أميره الذي كان الأمير الأول و الوحيد المتمتع بشعبية حقيقية من بين أمراء البيت الحسيني ، و كان يراوده الأهل في عودة المنصف باي إلى آخر وقت

    أما قادة الحزب الدستوري الجديد فقد سعوا في الحين إلى رفع الالتباس، و بعد المقابلة التي جرت بين بورقيبة و الجنرال " مورو" يوم 09 جوان 1943 لم يبقى للسلط الفرنسية أي شك حول موقف الحزب الدستوري الجديد تجاه الحلفاء في الماضي و الحاضر ، و لم يواجه الحبيب بورقيبة أية صعوبة بإقناع ممثلي الحكومتين الإنجليزية و الأمريكية بمساندته المطلقة لقضيته العادلة ، ومع ذلك لقد قام الجيش الفرنسي و السلطة الفرنسية في كل أنحاء القطر التونسي بحملة قمع جماعي فأصدرت أوامرها بإعدام المئات من الأفراد رميا بالرصاص من دون محاكمة و نسفت القرى الآمنة و ألقت من الوطنيين غياهب السجون و المعتقلات ، كل ذلك لإنزال الرعب في قلوب الشعب و القضاء على الحركة الوطنية .

   ولكن الشعب أمام هذه الموجة من الاضطهاد صمد في مقاومته حتى أدى به الأمر إلى القيام بثورات مسلحة خاصة بناحية دوز و ناحية رأس الجبل ، أما زعماء الحركة الوطنية أمنفسهم فقد أفلتوا من هذا الاضطهاد و لكنهم ظلوا تحت رحمة السلطات الفرنسية التي ضيقت عليهم الخناق و وضعتهم تحت رقابة مشددة ، و كانت الأحكام العرفية مسلطة على البلاد ، و بالرغم من هذا فإنهم عملوا على جمع شتات الشعب حول الحزب مقاومين تيار اليأس و محافظين على الوعي القومي الذي كان قد زرعه الحزب بعد جهود جبارة ، و بعد أن انتظم الحزب في الخفاء بجميع تشكيلاته القديمة ، عقد قادة الرأي في تونس مؤتمرا في شهر فيفيري عام 1945 و اتفقوا على تقديم عريضة للحكومة الفرنسية تتضمن المطالبة بالاستقلال الذاتي للبلاد التونسية .

      و لكن السلطات الفرنسية لم تغير موقفها بل شددت الخناق على الحزب و استمرت في اتباع سياسة الضغط و الاضطهاد و فرضت على الزعيم الحبيب بورقيبة إقامة جبرية بتونس العاصمة و كانت تهدف من وراء ذلك إلى منعه من القيام برحلات داخل القطر التونسي لنشر دعاية الحزب.

و إزاء هذه الحالة و بعد يئس قادة الحزب من الوصول إلى حل للقضية التونسية مع فرنسا ، اتجهت أنظارهم إلى الخارج و خاصة إلى المشرق العربي و رأوا وجوب خرق النطاق الحديدي المضروب على تونس حتى يرفعوا صوتها عليا بالمطالبة بحقوقها أمام الضمير العالمي ، و في ذلك الحين كان بروتوكول الإسكندرية قد تم توقيعه ، و ظهرت للوجود جامعة الدول العربية ، فأوفدوا الأستاذ الحبيب بورقيبة إلى مصر فغادر تونس يوم 26 مارس 1945 و اجتاز حدودها خفية و بعد سفرية متعبة و شاقة و محفوفة بالأخطار وصل إلى القاهرة  يوم 16 أفريل 1945 .

 

 

 

 

 

 

 

المحاضرة العاشرة: نشاط الحزب بعد الحرب العالمية الثانية  

أ- النشاط الداخلي : قبل التطرق إلى نشاط الحزب الداخلي في أعقاب الحرب العالمية الثانية يجدر بنا الحديث عن طبيعة السياسة الفرنسية في تونس بعد جلاء القوات الألمانية و الإيطالية عنها ، حيث تغيرت هذه و لم تصبح على ما كانت عليه قبل فترة وجيزة فقط ، إذا عمت اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني بمقتضى الأوامر الصادرة في 21 جوان عام 1943، و 7 مارس عام 1944 إلى نزع الصبغة التونسية عن الكتاب العام للحكومة التونسية الذي أصبح يدعي الكتاب العام للحكومة فقط ، و أصبح يتم تعيينه من طرف الحكومة الفرنسية لا من طرف الباي كما كان في السابق .

و في شهر فيفري قدم الجنرال " ماسط" برنامجه الإصلاحي الذي بدا هزيلا في نظر أشد الوطنيين التونسيين اعتدالا ، و مما جاء فيه هو استحداث منصب وزير تونس للشؤون الاجتماعية و إلغاء وزارة الأوقاف ، فجاء رد الفعل تجاه هذا البرنامج سريعا من طرف القوى الوطنية التونسية و في مقدمتها الحزب الدستوري التونسي ، حيث اتخذت جميع الاتجاهات السياسية بالبلاد باستثناء الشيوعيين من أجل تحرير و ضبط بيان الجبهة الوطنية في 22 فيفري عام 1945 و طالبوا فيه بمنح الاستقلال الداخلي للبلاد التونسية و إقامة نظام ملكي دستوري.

   في هذه الأثناء كان على رأس الحزب الدستوري التونسي الجديد الأمين العام للحزب الأستاذ صالح بن يوسف الذي خلف الحبيب بورقيبة بعد مغادرة هذا الأخير تونس في اتجاه القاهرة ، و كان صالح بن يوسف مع بقية أعضاء الديوان السياسي وهم الأساتذة : المنجي سليم ، و الهادي نويرة  و علي  البهلوان ،و الدكتور سليمان بن سليمان ، فواصل الديوان السياسي عمله في أحكام تنظيم الحزب و تقوية دعايته بين طبقات الشعب بالرغم من كل العراقيل التي كانت تضعها السلطة الفرنسية في طريقه، فازداد الحزب قوة و انتشارا  ثم إن المظاهرات التي نظمت بمناسبة وفاة الرئيس الأمريكي روزفيلت (15 أفريل 1945) و انتصار الحلفاء (08 ماي 1945) قد بينت مساندة الرأي العام لمطالب الجبهة الشعبية التونسية غير السلطة الفرنسية قد استمرت في سياستها دون أن تلتفت إلى هذه المستجدات التي أصبحت تهدد نفوذها ، فحاولت في مناسبات عديدة إحداث الاضطرابات للبطش بالشعب و القضاء على حزبه ، و من هذه الحوادث حادثة " الطابور" التي دارت رحاها في شهر أوت 1945 ، و قد أطلقت فيها أيدي جيش الطابور في شوارع تونس فهجم على السكان و قتل منهم الكثير و تكررت حوادث من هذا النوع قام بها الجيش الفرنسي في سائر أنحاء القطر التونسي ، كانت أفضعها كارثة بلدة "زر مدين " في شهر جويلية 1946، حيث سلط الفرنسيون فيها قوات الدرك على سكان القرية فعاثوا فيها فسادا و هدموا الدور و أتلفوا ما بها و هتكوا الأعراض .

   و إزاء هذه الاعتداءات الشنيعة نظم الشعب التونسي حركة مقاومة إلى جانب حركة الحزب الدستوري ، ثم تكونت جمعيات سرية كثيرة قامت بتوزيع النشريات السرية تدعوا إلى المقاومة العنيفة .

   لكن الحدث العام الذي جد في هذا التاريخ هو ميلاد الاتحاد العام التونسي للشغل بقيادة الزعيم النقابي فرحات حشاد و يضم الأغلبية الساحقة من العمال التونسيين و كان يعمل في إطار نقابي صرف و يشن الإضرابات من تلقاء نفسه في تونس و في صفاقس على الخصوص وكان إذا من اللازم العمل على تقويم الوضع ، و بناء على ذلك قرر مناضلو الحزبين الدستوريين القديم و الجديد و أنصار المنصف باي وإتباع الحركة الزيتونية و غيرهم من الوطنيين المستقلين توحيد جهودهم في إطار جبهة وطنية تونسية واحدة وفي 23 أوت 1946 عقد قادة الشعب مؤتمرا عاما حضره ممثلون عن الحزب الدستوري القديم و الجديد و نقابات العمال و أساتذة جامع الزيتونة ، و اتحاد الموظفين ، و اتحاد التجار ، وأرباب الصناعات ، و جمعية الفلاحين و جمعية الأطباء و الصيادلة و جمعية المحامين التونسيين و جمعية المعلمين ، كما حضره الوزراء السابقون في حكومة المنصف باي و بعض أعضاء المجلس الكبير،     و كان عدد الحاضرين يفوق السبعمائة و كان برئاسة العروسي الحداد رئيس الدائرة بمحكمة الوزارة الذي أعطى الكلمة إلى الكاتب العام للحزب الدستوري القديم صالح فرحات فاحتج على الإدارة المبشرة و على إبعاد المنصف باي و طالب بمنح تونس الاستقلال التام .

   و حينما تناول الكلمة الكاتب العام للحزب الدستوري الجديد صالح بن يوسف اقتحم أعوان الأمن قاعة المؤتمر فتوجه إلى الحاضرين بقوله :" هل أنكم موافقون على إعلان استقلال تونس" و أجابوا بصـوت واحد:" الاستقلال إلا الاستقلال " و ألقى القبض على نحو خمسين شخصا و تقرر إعلان الإضراب العام بداية من الغد حيث دام ثلاثة أيام كما وافق المؤتمرون بالاجماع على ميثاق وطني أعلنوا فيه بطلان الحماية الفرنسية و طالبوا بالاستقلال التام و الانضمام إلى جامعة الدول العربية و قبل افتراق المؤتمرين هاجمت القوات الفرنسية مكان الاجتماع و ألقت القبض على أربعين من الحاضرين ، فعم البلاد جو من الإضطرابات الخطيرة ، و قامت المظاهرات و أضرب الناس عن أعمالهم و احتجبت جميع الصحف العربية ، كما أحتج العالم العربي على هذا التصرف ، و ردد صدى هذه الحادثة الرأي العام العالمي ،   و خشيت السلطة الفرنسية اندلاع الثورة في البلاد فأطلقت سبيل المعتقلين بعد أن قضوا شهرا في السجن  و سعيا لتهدئة الخواطر و وضع حد للمظاهرات أعلن الجنرال ماسط يوم 21 نوفمبر 1946 أمام المجلس الكبير عن إجراء بعض الإصلاحات لكن خطابه قوبل بعدم الاكتراث من طرف التونسيين .

    و في 16 جانفي 1947 المحافظ الاشتراكي "جون" هو نص يعين مقيما عاما بتونس خلفا للجنرال ماسط ، و كلف بتطبيق الإصلاحات التي أعلنها " ماسط" و فور وصوله ألغى الرقابة على الصحافة ثم استأنف الاتصالات مع الزعماء الدستوريين و قرر إدخال الإصلاحات حيز التنفيذ ، و هي تتمثل في الزيادة من عدد الوزراء التونسيين (6 وزراء عوض 4) و منح الوزير الأكبر صلاحيات أوسع و تحديد مشمولات مجلس الوزراء بصورة أدق ، لكن الحقيقة أنه لم تحدث تغيرات جدرية بل اقتصر الأمر على إدخال تعديلات جزئية على نظام الإدارة المباشرة الذي يمثله الكاتب العام للحكومة .

كما أن الأمين باي لم يكن يحظى بتقدير التونسيين كسابقه المنصف باي ، حيث كانوا يعتبرونه غاصبا للعرش و أداة طبيعة بين أيدي الفرنسيين.

   و كانت السلطات الفرنسية تحاول إقناع قادة الشعب بقبول مشروع الاتحاد الفرنسي لكنهم رفضوه كما رفضوه في السابق عندما عرض في دستور فرنسا الجديد و من أبرز نشاط الحزب الدستوري على الساحة التونسية في هذه الفترة هو تنظيم الاحتفالات الشعبية الرائعة يوم 22 مارس سنة 1947 بكافة المدن و القرى إحياءها للذكرى الثانية لتأسيس جامعة الدول العربية  و كانت هذه الاحتفالات عبارة عن استفتاء عام قام به الشعب التونسي ليبين لفرنسا أن أنظاره متجهة إلى جامعة الدول العربية لا إلا المشاركة في الاتحاد الفرنسي.

    و النشاط الثاني هو إعلان الحزب الجديد و القيام بإضراب يوم 12ماي 1947 و هو يصادف الذكرى السادسة و الستين للاعتداء الفرنسي على تونس بفرض الحماية الفرنسية عليها ، و كذلك إعلان الاضطراب العام يوم 13 ماي 1947احتجاجا على خلع محمد المنصف باي أي اليوم الذي اعتدى فيه الفرنسيون على عرش تونس.

   و باختصار فإن الإصلاحات التي كانت تأتي بها السلطات الفرنسية كانت عبارة عن اصطلاحات صورية فقط لم تغير شيئا في جوهر الوضعية التونسية ، فأجمع الشعب على رفضها و في مقدمته قادة الحزب الدستوري الذين صمموا على رفض أي مشروع تتقدم به فرنسا لا يكون مبنيا على أساس الاستقلال التام للبلاد ، لأنهم ملوا من سياسة الوعود الكاذبة التي لا تسمن و لا تغني من جوع .

ب- النشاط الخارجي :

إلى جانب النشاط الداخلي للحزب الدستوري الجديد كان هناك أيضا نشاط خارجي موازي و مكثف قام به قادة الحزب و كان لبورقيبة فيه النصيب الأوفر و تتمثل في :

أولا : نشاط المعتقلين التونسيين.

   لقد رأى قادة الحزب بعد خروجهم من السجن و هم على الخصوص الحبيب ثامر ، الأستاذ الطيب سليم ، و الرشيد إدريس ، و حسين التركي ، و الهادي السعيدي ، يرون وجوب الهجرة إلى أوروبا.      و كان على اتفاق معهم الأستاذ يوسف الرويسي ، و الحبيب أبوقطفة اللذان كانا معتقلين في سجون فرنسا و كان هؤلاء يرون ضرورة العمل خارج البلاد ، و وجوب انتهاز الفرصة لخرق النطاق الحديدي المضروب على تونس و بقية بلاد المغرب ، و قد تحدوا أشد الصعوبات في تلك الضروف الحرجة للوصول إلى أوروبا حاملين راية الكفاح الوطني خارج البلاد ، فكتبوا صفقة جديدة من الجهاد في الدعاية للقضية التونسية لدى مختلف الأوساط الأوروبية ، و قد ضموا جهودهم إلى جهود زعماء العرب المهاجرين و تعاونوا معهم و أنشأوا مكتبا ببرلين " مكتب المغرب العربي" و آخر بباريس للدعاية لقضية بلادهم ، و أصدروا صحيفة باللغتين الألمانية و العربية في برلين تحت عنوان " المغرب العربي".

   و قد رأوا أن يصرفوا عنايتهم للاهتمام بالجالية المغربية المقيمة بفرنسا و أوروبا ، حيث كان عددها يفوق المائتي ألف ، فعملوا على بث الدعاية الوطنية بين صفوفها و إيقاظ شعورها الوطني .

و كان أكثرهم مسخرين للعمل في المصانع و في أعمال التحصينات على شاطئ المحيط الأطلسي ،    و هم يعيشون في ظل ظروف خاصة و يعاملون معاملة قاسية من قبل المؤسسات الفرنسية التابعة لحكومة فيشي "Vichy"  و كان لهذه الحركة التي قام بها رجال الحزب في أوروبا أثرها البالغ في الدعاية للقضية التونسية خاصة و لقضايا المغرب العربي عامة حتى في البلاد العربية الأخرى لأن ظروف الحرب العالمية الثانية اقتضت وجود عدد كبير من رحلات العرب و شبابهم في أروبا كانوا يجهلون كل شيء عما كان يجري في بلاد المغرب العربي .

 

 

 

المحاضرة الحادية عشر: نشاط الزعيم الحبيب بورقيبة.

   إذا كان الحبيب بورقيبة قد أظهر بعض الميول نحو الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية على أساس المثل الديمقراطية و الأهداف التحررية التي أدعوها فإن سلوك السلطات الفرنسية منذ نهاية الحرب قد دفع برئيس الحزب الدستوري الجديد إلى ضرورة خوض تجربة سياسية جديدة تتجه هذه المرة نحو المشرق العربي ، خاصة و أن حدث تأسيس جامعة الدول العربية  مازال ساخنا و كان له صدى واسعا في شمال إفريقيا في نفسية الحبيب بورقيبة شخصيا حيث عقد على هذا الحدث العظيم آمالا عريضة للدفاع عن القضية التونسية و ذلك بالاستعانة بالدول العربية المستقلة في المشرق لتحرير تونس  فغادر بورقيبة ميناء صفاقس يوم 26 مارس 1945 – لقد أشرنا إلى هذا عندما تحدثنا عن سيرة بورقيبة – في رحلة شاقة    و طويلة مخطرة دامت 22 يوما ( 26 مارس 1945 – 16 أفريل 1945) نحو قاهرة المعز التي ينبض بها قلب الإسلام .

    و يذكر بورقيبة في سلسلة محاضراته " أرائي ، حياتي ، جهادي " أن خروجه من تونس خفية كان سببا في تنحية المقيم العام الفرنسي في تونس فيقول :" و نزلت إلى أحد فروع البريد فوجهت برقية إلى تونس قلت فيها وصلنا في صحة طيبة إلى القاهرة .. و إني على يقين أن تلك البرقية كانت السبب في تنحية المقيم العام من منصبه بتونس لأن المسؤولين الفرنسيين استنكروا عليه أن يكون لعبة في يد شخص يجيد القدرة على أن يبرز في القاهرة دون علم أحد .... و عابوا عليه أن تكون الشرطة الفرنسية مغفلة إلى هذا الحد " و يعتبر انتقال الحبيب بورقيبة على القاهرة و انضمامه إلى مكتب المغرب العربي ، ثم لجنة تحرير المغرب العربي  تحولا هاما اتجاه الحزب الدستوري الجديد ، فمن المعروف أن هذه اللجنة كان يرأسها الأمير عبد الكريم الخطابي ، أشد الزعماء المغاربة خصومة للفرنسيين و يسيطر عليها حزب الاستقلال المغربي الذي يؤمن بأن وجهة المغرب القومية وجهة عربية إسلامية ، وإذا تتبعنا رسائل الحبيب بورقيبة خلال هذه الفترة نلاحظ فعلا أن له ميل إلى فكرة التضامن العربي .

   و يبدوا أن الظروف السيئة التي أحاطت بجامعة الدول العربية حينئذ لم تعمل على تثبيت الاتجاه الجديد في نفسية بورقيبة . ففي الفترة التي قضاها في القاهرة لم تكن مشاكل شمال إفريقيا تشغل المشرق العربي بنفس الأهمية التي حظيت بها قضية فلسطين . فلم تول المسألة التونسية الاهتمام الذي أمله منها الحبيب بورقيبة ، بل أنها تركته يعيش ظروف مادية سيئة و أصبح يحس بضعفه أمام الرأي العام العالمي ، فهو عندما يسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية من أجل الدعاية لقضية تونس لا يستطيع مقابلة وزير الخارجية الأمريكي إلا بتوسط شخصيات سياسية مرموقة مثل السفير السعودي مثلا.

   كل هذه العوامل جعلته يفكر في محاولة الاتصال بفرنسا مجددا ، فيجري محادثات غير رسمية مع الملحق العسكري بالسفارة الفرنسية في القاهرة و يظهر استعداده لعقد معاهدة مع فرنسا تضمن لها امتيازات استراتيجية و اقتصادية واسعة ، و لكن عقلية الساسة الفرنسيين لم يطرأ عليها أي تطور ،    كما يتضح ذلك من مشاريع الإصلاح التي قبلوا إدخالها إلى تونس في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية. إذ تقرر سنة 1945 رفع عدد الأعضاء التونسيين في المجلس الاستشاري بحيث أصبحوا متساويين مع عدد الفرنسيين ( 53 عضوا عن كل فريق )  وتشكيل لجنة عليا من 07 أعضاء عن كل قسم لوضع الميزانية ، كما تقرر زيادة عدد الوزراء التونسيين في مجلس الوزراء ، و من الواضح أن هذه الإصلاحات ليست لها أية علاقة بمشكلة تونس السياسية ، أي احترام السيادة التونسية بل على العكس أن هذه الإصلاحات تؤكد مبدأ السيادة المزدوجة لأنها تبيح للفرنسيين الاشتراك في المجالس المحلية      و بالقاهرة كان للحبيب بورقيبة عدة اتصالات هامة كتلك التي جمعته بالسفير الأمريكي " دوليتل " ، ثم بالسفير العراقي الذي قدم له دعما كبيرا تمثل في منحه جوازات سفر عراقية سهلت له مهمة السفر فسافر إلى عدة دول عربية مشرقية كالمملكة الأردنية ، و المملكة العربية السعودية هذه الأخيرة التي تلقى منها النصح و التوجيه و بعض الأموال. و من مصر سافر إلى فرنسا و إلى سويسرا و إلى نيويورك .

    و هو في القاهرة التحق به سنة 1946 الدكتور الحبيب ثامر و الطيب سليم و الرشيد إدريس و قاموا جميعا بنشاط دعائي مكثف في العاصمة المصرية و سائر أقطار المشرق العربي ، فنشروا الفصول التوضيحية عن طريق النشريات العديدة الصادرة عن لجنة تحرير المغرب العربي ، و كانت الجرائد الدستورية السرية التي تأسست سنة 1947 بتونس كالهلال و الكفاح ، و الانفجار  تتولى نشر تلك النشاطات ليطلع الشعب التونسي .

   و في سنة 1949 أدرك بورقيبة اليأس من تجربة الاعتماد على الجامعة العربية فقرر العودة إلى تونس و كان ذلك في شهر سبتمبر 1949 و هو مقتنع بأن النضال الحقيقي يجب أن يكون على أرض الوطن ، و عاود الفكرة لتحقيق أمنيته القديمة و هي التفاهم مع الفرنسيين مباشرة ، و في أفريل 1950 سافر إلى باريس لهذا الغرض لكن الصعوبة إلي كان يصطدم بها دائما هي استمرار السياسة الفرنسية على عدم الاعتراف بشرعية الحزب الدستوري الجديد منذ أن حل سنة 1938 ، و اعتقادهم أنه من المخاطرة التفاهم مع ممثلي الشعب و لذلك تمسكوا بالفكرة القائلة بأن الحكومة الفرنسية لا تعرف مفاوضا شرعيا سوى الباي الذي عقدت معه معاهدة الحماية ، بل أن بعض الساسة راح يشيع التهم الباطلة حول الدستوريين فاتهموهم بالانتماء إلى الشيوعية الدولية ، و حتى يبطل الدستوريون هذه التهمة جعلوا الاتحاد العام التونسي للشغل  ينظم إلى الاتحاد الدولي للعمال الأحرار و هو الاتحاد الذي تشترك فيه النقابات الأمريكية و يعتبر معاديا للنقابات الشيوعية  و بهذا يكون الحزب الدستوري الجديد قد قام بنشاط خارجي مكثف جلب إلى القضية التونسية دعما سياسيا و معنويا كبيرا .

 

 

 

 

المحاضرة الثانية عشر: المفاوضات التونسية الفرنسية واستقلال تونس

 عاد إذن الحبيب بورقيبة إلى تونس في شهر سبتمبر 1949 بعد غياب دام قرابة خمس سنوات كانت كلها اتصالا و سفريا من أجل دعم القضية التونسية . و حظي باستقبال حماسي كبير ، ثم انطلق في الحين إلى العمل عن طريق الاتصال المباشر مع الجماهير و مع مناضلي الحزب في جميع أنحاء البلاد ( من سبتمبر 1949 إلى أفريل 1950 ) و قد دعاهم إلى ضرورة الاستعداد للمرحلة الحاسمة و الالتفاف حول الحزب و زعمائه لمجابهة قوى القهر التي تحاول بجميع الوسائل تأخير الاستقلال ، و قد دعيت جميع القوى الحية في تونس إلى الاستعداد للكفاح ، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل ، و الاتحاد التونسي للصناعة و التجارة بقيادة الفرجاني بالحاج عمار أحد مناضلي الحزب الدستوري الجديد،         والاتحاد العام للمزارعين التونسيين و الاتحاد النسائي التونسي ، و جمعية قدماء المحاربين التونسيين ،   والشبيبة الدستورية ... إلخ .

   و نظرا لما يتسم به الحبيب بورقيبة من واقعية أساسية و حرصا منه على تجنيب بلاده الهزات المأساوية التي كانت تشهدها  " الفتنام" في ذلك التاريخ فإنه رفض التورط في أي نمط أيديولوجي و بما أن هدفه الوحيد هو العمل على تحرير بلاده فقد حاول أن يوفر لعمله جميع الأسباب التي من شأنها أن تمكنه من بلوغ الهدف الذي رسمه لنفسه بأقل التكاليف .

و معروف على بورقيبة أنه لم يكن من أنصار الحلول العنيفة فهو لا يلجأ إلى القوة إلا في أقصى الحدود ، و ذلك عندما يكون قد استنفذ جميع وسائل الإقناع، فقد سعى دوما إلى حل المشاكل عن طريق الحوار ، و كان يطمع دوما في الحصول علة مساندة الرأي العام سواء التونسي أو الفرنسي والعالمي ، لأنه يدرك جيدا أن رفض الحوار يحمل فرنسا تبعة كل الأخطاء و يبرر عندئذ كل التبرير الكفاح المسلح الذي عقد بورقيبة العزم على خوضه إذا ما رفضت فرنسا التفاهم وأمام مطالبة بورقيبة بضرورة إجراء مفاوضات مع الحكومة الفرنسية لتمكين الشعب التونسي من ممارسة حقه في الاستقلال ، جرت اتصالات بين الحكومة الفرنسية و الأمين باي كللت بتأليف وزارة جديدة برئاسة محمد شنيق يوم 17 أوت 1950 بمشاركة صالح بن يوسف الأمين العام للحزب الدستوري الجديد ، مكلفة بالتفاوض مع فرنسا حول التعديلات الأساسية التي من شأنها أن تقود البلاد عبر مراحل متتالية نحو الاستقلال الداخلي .

     لكن إصلاحات 08 فيفري 1951 التي جاءت بعد مفاوضات جرت بتونس قد خيبت آمال الوطنيين التونسيين و في أواخر شهر أكتوبر1951 استؤنفت المفاوضات الفرنسية التونسية من جديد في باريس و قد طالب الوفد التونسي المفاوض برئاسة الوزير الأكبر محمد شنيق منح البلاد التونسية الاستقلال الداخلي حالا فرد وزير خارجية فرنسا " روبار شومان" بمذكرة مؤرخة في 15 ديسمبر 1951 أكد فيها بالخصوص أن العلاقات بين تونس و فرنسا ينبغي أن ترتكز على مبدأ " السيادة المزدوجة " و ألح على ضرورة تمثيل الجالية الفرنسية في الهيئات النيابية التونسية .

فاستخلص الحبيب بورقيبة من هذه المذكرة عدم جدوى الحوار المباشر بين تونس و فرنسا :" إن جواب السيد شومان سيفتح عهدا من القمع و المقاومة ، مع ما يتبع ذلك حتما من دموع و أحزان و أحقاد" و لما لم تجد المفاوضات نفعا اندلعت المعركة الحاسمة يوم 18 جانفي 1952 إثر الشكوى التي قدمتها الحكومة التونسية إلى منظمة الأمم المتحدة ضد الحكومة الفرنسية ، و قرر المقيم العام الجديد " دي هوتكلوك " منع مؤتمر الحزب الدستوري الجديد الذي كان مقررا عقده في ذلك اليوم ، كما أمر في نفس اليوم بإلقاء القبض الزعيم الحبيب بورقيبة و إبعاده إلى مدينة طبرقة صحبة المنجي سليم ، و تم أيضا اعتقال عدد كبير من المناضلين الدستوريين و حتى بعض الشيوعيين ،

و كان ذلك إيذانا باندلاع الكفاح المسلح ، وما إن انتشر خبر إيقاف بورقيبة حتى أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل الإضراب العام فأغلقت الدكاكين أبوابها و انتظمت المظاهرات الشعبية في العاصمة     و في كامل البلاد التونسية ، و قد تصدت لها الشرطة معززة بالجيش ، لتشتيت المتظاهرين ، فأسفرت المواجهة عن عدد كبير من القتلى و الجرحى من بين المتظاهرين و لقي بعض رجال الشرطة و الجيش مصرعهم ، و رغم قرار المنع فقد عقد الحزب الدستوري الجديد بطريقة سرية في العاصمة يوم 18 جانفي 1952 مؤتمره الوطني برئاسة الزعيم الهادي شاكر و وافق المؤتمر بالإجماع على لائحة تطالب بإلغاء معاهدة الحماية و الاعتراف باستقلال تونس التام، وتواصلت المقاومة في الأيام الموالية و اتخذت أشكالا مختلفة حسب تطور الظروف في الداخل و الخارج ، فاتخذت في أول الأمر شكل مظاهرات و إضرابات و مصادمات مع رجال الأمن ، ثم شكل عمليات تخريب و اغتيال .

    و تحولت فيما بعد إلى حرب عصابات و مقاومات مسلحة في الجبال و الأرياف فكان رد السلطة الاستعمارية متمثلا في تنظيم حركة إرهاب مضاد بواسطة منظمة إرهابية شبه رسمية تدعى " اليد الحمراء" و قد عمدت هذه المنظمة إلى اغتيال عدد كبير من القادة و المناضلين الوطنيين في مقدمتهم الزعيم النقابي فرحات حشاد الذي استشهد يوم 5 ديسمبر 1952 ، و كذلك الهادي شاكر عضو الديوان السياسي للحزب الدستوري الجديد الذي اغتالته نفس المنظمة يوم 13 سبتمبر 1935، و من ناحية أخرى أقدم المقيم العام على إقالة وزارة محمد شنيق يوم 26 مارس 1952 رغم إرادة الباي ، و عوضها بوزارة صورية برئاسة  "العميل" صلاح الدين البكوش كما أمر بإبعاد الزعيم الحبيب بورقيبة إي جزيرة جالطا ، حيث بقي في عزلة تامة لمدة سنتين .

   و أمام تصاعد المقاومة التونسية اضطرت الحكومة الفرنسية إلى إعفاء المقيم العام دي هوتكوك من مهامه في 23 فيفري 1953 و خلفه بيافوازار الذي انتهج سياسة المهادنة و المراوغة ، فتمكن من استمالة الباي و إقناعه بتأليف وزارة جديدة برئاسة محمد صالح مزالي ( 2 مارس1954).

   و أول عمل قامت به هذه الوزارة هو إجراء إصلاحات وهمية قابلها الرأي العام التونسي بالرفض رغم تزكية الباي ، و لم تستطع وضع حد للمقاومة المسلحة و لم يقطع الجيش الفرنسي المهزوم في ديان بيان فو بالفتنام ماي 1945 التغلب على المجاهدين ، بل أصبح يخشى الثورة المسلحة و امتدادها للجزائر.    و في هذه الظروف بالذات تقلد منصب رئيس الوزراء بفرنسا في 18 جوان 1954 " بيـار منديـس فرانسـي Pierre Mandis France" المعروف بأفكاره التحررية فما إن فض مشكل الهند الصينية ( الفيتنام) حتى تحولت إلى تونس يوم 31 جويلية 1954 و ألقى خطابا شهيرا في قصر قرطاج أعلن فيه رسميا اعتراف الجمهورية الفرنسية باستقلال الدولة التونسية الداخلي و قد رحب بورقيبة من منفاه بجزيرة جالطا بهذه الخطوة و اتفقت فرنسا وديا مع الحزب الدستوري الجديد على تأليف وزارة برئاسة أحد الوطنيين المستقلين و هو الطاهر بن عمار ، على أن يشترك معه أربعة من الدستوريين  لتولي مهمة التفاوض مع فرنسا.   و في أعقاب هذه الإجراءات وجه المقيم العام الجديد الجنرال " دي لاتور" المعروف بشدته نداءا إلى المقاتلين بتسليم أسلحتهم لكن هذا النداء لم يكن ليلقى أذانا صاغية من قبل رجال المقاومة فعاد القتال إلى أشده و وقعت بعض أحداث القتل في صفوف القوات الفرنسية .و لقد تطورت الأحداث السياسية         و الدبلوماسية بعد ذلك فجرى اتفاق بين الوطنيين من خلال المباحث على إنهاء القتال و تسليم السلاح على الرغم من أن هذا الإجراء قد أبرز الخلاف الحقيقي بين رئيس الحزب الدستوري الجديد الحبيب بورقيبة و بين الأمين العام للحزب صالح بن يوسف الذي اعترض على مبدأ التسليم قبل الاتفاق وبعد مفاوضات طويلة و شاقة تم التوقيع يوم 23 جوان 1955 على اتفاقيات الاستقلال الداخلي.و في يوم فاتح جوان 1955 كان قد عاد الزعيم الحبيب بورقيبة إلى أرض الوطن فخصه الشعب باستقبال منقطع النظير ، و لكن لم تمض سوى ثلاثة أشهر حتى ظهرت بوادر الانشقاق في صفوف الحزب الدستوري الجديد ، ففي سهر سبتمبر 1955 عاد إلى تونس الكاتب العام للحزب صالح بن يوسف و بادر بالتعبير عن معارضته للاتفاقيات الفرنسية التونسية التي اعتبرها خطوة إلى الوراء داعيا الشعب إلى استمرار الكفاح  و رغم مصادقة المؤتمر الوطني المنعقد بصفاقس في 15 نوفمبر 1955 على السياسة الواقعية التي انتهجها الديوان السياسي للحزب ، فقد انضم عدد كبير من الحزب الدستوري الجديد إلى صالح بن يوسف الذي فصل من الديوان السياسي و عوض بالسيد : الباهي الأدغم بصفته كاتب عام للحزب.و نشبت منذ ذلك الحين معارك حامية بين الوطنيين  و أنصار بورقيبة و أنصار صالح بن يوسف ، كادت تتحول إلى حرب أهلية ، فاغتنم رئيس الحزب الحبيب بورقيبة فوز الأحزاب اليسارية الفرنسية في الانتخابات التي جرت في فرنسا في جانفي 1956 و طالب بإجراء مفاوضات جديدة مع الحكومة الفرنسية لمراجعة بنود الاتفاقيات الفرنسية التونسية التي تعارض حق تونس في تحقيق الاستقلال التام.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الهـــــــوامــــش:

1- صلاح العقا د المغرب العربي ، دراسة في تاريخه الحديث وأوضاعه المعاصر  الجزائر- تونس- المغرب الأقصى ، مكتبة الانجلو المصرية القاهرة دون تاريخ

2- شارل أندري جوليان: افريقيا الشمالية تسير، القوميات الإسلامية والسيادة الفرنسية ترجمة المنجي سليم وآخرون  الدار التونسية للنشر، الشركة الوطنية للنشر الجزائر 1976

3- علي المحجوبي: جذور الحركة الوطنية التونسية 1904-1934 تعريب عبد الحميد الشابي ط1  المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون( بيت الحكمة) تونس1999

4- علي المحجوبي: انتصاب البحماية الفرنسية على تونس، تعريب عمر بن ضو،حليمة

            قرقوري،علي المحجوبي ط² دار سراس للنشر،تونس 1993

5- جاك بارك : المغرب بين حربين، لوسوي ، باريس، 1962

6- حسن حسني عبد الوهاب : خلاصة تاريخ تونس، تقديم وتحقيق حمادي الساحلي، دار الجنوب للنشر  تونس

7- الطاهر عبد الله : الحركة الوطنية التونسية رؤية شعبية قومية جديدة 1830-1956 ط2 دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة ، تونس 1990

8- الحبيب ثامر: هذه تونس، تقديم الرشيد إدريس، مراجعة وتحقيق حمادي الساحلي ط1 دار الغرب

         الإسلامي لبنان 1988

9- شارل أندري جوليان : المعمرون الفرنسيون وحركة الشباب التونسي، تعريب محمد مزالي ، والبشير بن سلامة ، الشركة التونسية للتوزيع ، تونس 1985

10- أحمد توفيق المدني: حياة كفاح ( مذكرات ) الجزء الأول ، في تونس 1905-1925 ، الشركة الوطنية للنشروالتوزيع ، الجزائر 1976

11- الحبيب ثامر هذه تونس تقديم الرشيد إدريس ، مراجعة و تحقيق حمادي الساحلي ط1 دار الغرب الإسلامي       

12- أحمد القصاب : تاريخ تونس المعاصر 1881 – 1956 تعريب حمادي الساحلي  الشركة التونسية للتوزيع ، تونس.

13- الطاهر بالخوجة الحبيب بورقيبة – سيرة زعيم . شهادة على عصر مطبقة علامات تونس.

 

  

   14- Ganiage Jean :Les Origines du Protectorat français en Tunisie

Ed 1P.U.F Paris :1959 .

15- Goldstein Danie ou Annexion aux Chemins croisés de l’histoire Tunisienne 1914-1922,  (Tunis, MTE, 1978).

16 – Juliens Charles André : L'Afrique  du nord en marche nationalisme musulmans et souveraineté Française paris 1972.

1970.

17- Laroui Abdellah : L’histoire du Maghre,éd. MASPERO, Paris: 1970.

18- Lejri Mohamed –Salah:Evolution du Mouvement National Tunisien, des origines à la deuxième guerre mondiale, (Tunis, MTE, 1974) (Thèse) T.I..

19- Mahjoubi Ali : Les origines du mouvement national en Tunisie 1904-1934 publications de l’université de Tunis 1982 .

20- Raymond Rober, le Nationalisme Tunisien, Afrique Française, Renseignements  coloniaux et documents ,No.6Bis 35 année , (Juin 1925

21-Tlili Bechir: nationalisme, socialisme et syndicalisme dans le Maghreb des année:1919-1934, tome 01.